محمد داوديه
وطنا اليوم – تقف قرية مجرا على الحزمان المشرفة على سهل مؤتة شرقا. وجنوبا على وادي اللعبان الذي يصل الكرك بالطفيلة ويصل مملكتي مؤاب وآدوم. وغربا قرية البطوش الطيبة (خنزيرة سابقا)، المطلة على غور الصافي ووادي عربة ومفاعل ديمونا وفلسطين.
كانت حرب الاستنزاف في اوج اندلاعها.
كنا نكتب الرسائل فيحملها البريد مئات وآلاف الكيلومترات. كتبت الى عبد المهدي علي التميمي في المفرق. والى علي محمد ابراهيم مشري الخوالدة آل خطاب في استراليا. والى ميشيل ثلجي فريح النمري في إيطاليا. والى نايف عطالله السلامين الليثي في اليونان. كتبت الى اصدقائي الكثر في كل مكان.
ولما زرت عبدالمهدي في بيته- المزرعة الوارفة في قرية هام قبل اشهر احضر حقيبة مليئة بالوثائق. استل منها ورقة دفعها لي وقال اقرأ.
كان مكتوبا على شمال القسم العلوي من الرسالة: مجرا في 1968.12.4.
كانت رسالة مني اليه عمرها 53 عاما.
ماذا في رسالة معلم شاب في الحادية والعشرين من عمره يعمل في قرية نائية في الجنوب ؟!
ادناه بعض المفردات والجمل والقيم الواردة في رسالتي:
كم ذا احب الله. التأمل. الرؤى. مقاييس الجمال.
قول لزرادشت: “خير لي ان يسودني الجنون من ان يسودني الجمود”.
قول لسارتر: “الحياة حركة والجمود موت”.
حرص على التعلم. ما اجمل ان تتعلم شيئا، وان تعرف ان الكثير في انتظارك لتتعلمه”.
في مجرا، أتيح لي في ربيع عام 1969 أن أشاهد بالعين المجردة كيف تمكن المصريون من إسقاط طائرة إسرائيلية فوق قاعدة الرادار المصري التي أقيمت في مزار الكرك.
كانت الطائرات الإسرائيلية تأتي من الغرب من فلسطين المحتلة تعبر فوق أهدافها ولا تقصفها إلا في طريق عودتها وهي متوجهة من الشرق إلى الغرب، لضمان أن تسقط الطائرات التي تصاب في اسرائيل، من اجل سلامة طياري تلك الطائرات الذين يقفزون بالمظلات.
أبدع المصريون في تصديهم للطائرات الإسرائيلية المغيرة على قاعدتهم، فقد ظلوا يطلقون نيران أسلحتهم المقاومة للطائرات في خط مستقيم واحد، فشكلوا بذلك ستارة وشبكة نارية اصطدمت بها طائرة إسرائيلية كانت تلقي قذائفها على القاعدة فانفجرت الطائرة في الجو.
سقطت الطائرة حطاما إلى الغرب من المزار، وخرج جمع غفير من أهالي المزار وطيّبة البطوش ومجرا الخرشان وهم مسلحون ونحن معهم أنا وزميلي المعلم جليل الهلسا، للبحث عن الطيار الإسرائيلي الذي تم العثور عليه جثة هامدة متفحمة.
كنت مدرسا غير منفرد في مدرسة مجرا الابتدائية بصحبة المعلم الصديق جليل الهلسا، كانت تربطنا صلات طيبة مع الأهالي، فقد كنا نسهر مع الشيخ النوري بن قبلان الخرشة وشقيقه الشيخ نويران ومع الأستاذ ياسين القطاونة ومع والده الشيخ طايع وشقيقه مطيع في قرية جوير المجاورة لمجرا، وظلت تربطني صلات طيبة مع عوض ابن الشيخ نويران ومع ابنه الدكتور بشار الإعلامي في التلفزيون الأردني.
وإذا كانت ثلوج الشوبك والطفيلة ووادي موسى سيبيرية مهولة، فان ثلوج مزار الكرك ومجرا، لا تقل هولا.
أثلجت طيلة 4 أيام، ثلجا متواصلا كثيفا، التزم الطلاب منازلهم ونفذ مخزوننا من كاز الصوبة فقررنا جليل وأنا، أن نذهب إلى بلدة المزار القريبة ومن هناك إلى منزل جليل في الكرك.
سلكنا الطريق الذي يربط الطيبة بمجرا بالمزار وكان الوقت عصرا. مشينا نحو كيلومتر فجددت السماء “رميها”. كان الثلج يتهاطل دوائر دوائر ونراه فوقنا كالصحون الطائرة. واصلنا المشي بصعوبة شديدة. وجاء فرجُ الله.
سمعنا صوت محرك سيارة خلفنا ولما اقتربت لوّحنا لسائقها فرفض أن يقف لنا !!
صعقت. أي بني آدم هذا الذي ليس فيه من المروءة والنخوة ذرة واحدة.
واصلنا المشي المضني نحو 10 دقائق فوجدنا السيارة قد غرّزت وسائقها وصاحبه يدفعانها ويحاولان إخراجها من الغرز. طلبا مساعدتنا فقلت لصاحبي ما ترد على هالمجرم، توسلا واستعطفا دون أية استجابة منا، لقد ابتعدنا.
ازداد هطول الثلج وأصبحت حركتنا بطيئة جدا جدا، مرت نحو ساعتين ونحن لم نقطع بعد الطريق الذي طوله نحو 7 كيلومترات.
وصلنا إلى المزار وكانت العتمة قد حلّت، كنا شبه متجمدين ولم يكن ممكنا أن نواصل إلى الكرك بسبب إغلاق الطرق ولعدم وجود أية سيارة.
تذكرت طالب التوجيهي محمد جميل القطاونة نسيب صديقي المعلم ياسين مطيع القطاونة فدلنا احدهم على منزله الذي دخلناه في الرمق الأخير، كانت أصابعي متيبسة لدرجة أنني عجزت عن فك ربّاط البسطار العسكري الذي البسه، فقام محمد بالمهمة. ولم استطع أن اخلع المعطف الجيشي ولا الجرابات الجيشية التي كنت ارتديها فتولى محمد القيام بكل ذلك.
رفع محمد اوار صوبة الكاز حتى أصبحت حمراء كالجمر وقدم لنا القطاونة طعاما مكونا من الحليب الساخن والسمن البلدي والمربى والعسل والخبز البلدي والحلاوة فأكلت وبلعت بصعوبة، كان جليل شاحبا كالسراج النائس، فأدركت أنني في نفس حالته.
“دَمَلنا” محمد بالأغطية الصوفية فتحلحلت أصابعي وسرى الدم في عروقي وزال الغباش عن عيوني وصار بوسعي أن اسمع جيدا.
لقد عدت من الهلاك.
لم نتمكن بالطبع من الذهاب إلى الكرك فمكثنا في المزار يومين في ضيافة القطاونة الذين لهم فضل لا لا يسد.
ولاحقا فرحت عندما انتخب صديقي الآخر محمد صبري القطاونة رئيسا لغرفة تجارة المزار. وفرحت به جدا عندما زارني وأنا سفير في المغرب عام 2003، مع وفد رؤساء البلديات الأردني.
ولاحقا اصبح محمد رئيسا لبلدية مؤتة والمزار. وقد احتفى بأعضاء جمعية الحوار الديمقراطي الوطني أكبر احتفاء عندما زرناه في المزار.
أما محمد جميل القطاونة الذي استضافنا في منزله وأكرمنا غاية الإكرام، فقد اصبح احد المحامين المحترمين المدافعين عن الحق والعدل.
ومن طرائف ما حصل معي إنني عملت معلما مع مدير كان يتفانى في إهمال الطلاب والتدريس !
كان يغادر المدرسة في الصباح، يذهب الى شراء الأغنام أو لبيعها أو لشراء القمح والشعير أو لتأجير التراكتور الذي كان يملكه.
حاولت معه، إلا انه كان وغدا، يقابل سخطي عليه بالجملة القبيحة: “يا محمد جاي تقيم الدين في مالطا”.
قبل نهاية العام الدراسي ناداني ودفع إلي مجموعة من الأوراق قائلا لي: تفضل إملأ الصفحات المخصصة لك. كانت الأوراق هي التقرير السري السنوي المكون من قسمين، القسم الأول يملأه المعلم ويملأ المدير القسم الثاني الذي يتضمن تقييمه للمعلم عن سنة.
هذا الوغد سيقيّمني اذن!! قلت لنفسي ساخطا. هذا الوغد سيكتب تقريري السنوي الذي يترتب عليه الكثير بالنسبة لي.
قلت له: أنت يا عديم الذمة والضمير، ستقيّمني وستقرر مصيري؟!
ابتسم ابتسامة البلادة الخاصة به وقال: اطمئن يا محمد، أنت عبّي وأنا مش رح اقصّر”.
أغلقت باب الغرفة علينا بالمفتاح، سحبت المفتاح ووضعته في جيبي. كان في زاوية الغرفة فأس وكريك ومجرفة. سحبت ذراع الفأس وقلت له وسط ذهوله وامتقاع لونه: اكتب التقرير أمامي الآن يا حقير، أملأ القسم الأخير الذي يخصك من التقرير وأنا سأملأ القسم الأول الذي يخصني!!
تمنّع قليلا فهددته، فادعى انه كان سيكتب عني أفضل تقييم. قلت له: اكتب أمامي والآن.
فأخذ يسألني ماذا اكتب في هذه الخانة وأنا أقول له اكتب ممتاز، وهنا اكتب جيد جدا وهنا اكتب ممتاز، إلى أن فرغ من تعبئة التقرير فقلت له اكتب كتاب التغطية الموجه إلى مدير التربية والتعليم، فانصاع وكتب. قلت له اكتب العنوان على المغلف فكتب. قلت له سجل الكتاب في الصادر والوارد فسجّل.
حملت الكتاب معي الى الكرك وأودعته ديوان مديرية التربية والتعليم حيث تم تسجيله وتوثيقه.
من الضروري احيانا تطبيق قاعدة: “ناس بتخاف ما بتستحي” !
******
مع الملك أم مع المملكة ؟!
الهجمة الصهيونية المتصلة بلا انقطاع على الملك عبدالله الثاني، سببها واضح لنا ولهم. ويجب أن يظل سببها حاضرا في ذاكرتنا ونحن نعاين اشكالا مستترة مضببة لهذه الهجمات، تنطلي احيانا على ابناء الأردن الذين هم ضد الصهيونية، فتوظفهم او توظف نقمتهم على الفاسدين وعلى ظروف العيش التي انحدرت لأسباب عدة منها الاغلاقات التي تسببت بها الكورونا، ومنها الضغوط الاقتصادية والاعلامية المنسقة ضد الملك والمملكة.
وقف الملك ويقف ونحن “بظهره” في وجه تحالف واملاءات ترامب -نتنياهو- كورشنير التي تمحق فرص السلام وقال كلا بالثلاثة.
ولا ينكر حتى جاحد، جهود الملك في المحافل الدولية والاقليمية، لحماية حقوق شعب فلسطين العربي ومواجهة مخططات تصفية قضيته العادلة.
وقبل هذا وذاك فان الاردن في مهداف الحركة الصهيونية التي تعتبر بلادنا ارض اسرائيل التي انتزعها الامير والملك عبدالله الأول من وعد بلفور.
معركة الحركة الصهيونية ليست مع الملك عبدالله فحسب، المعركة لا تزال وستظل، كما كانت على الدوام، مع الشعب الفلسطيني هناك على ارض الصراع المباشر، وهنا مع الشعب الأردني الملتف حول الملك، ومع أبناء الأمة العربية واحرار العالم كافة.
المعركة هي معركة العالم كله مع الاحتلال الإسرائيلي، فالقدس إرث العرب والمسلمين والمسيحيين والعالم كله.
والمعركة على الملك عبدالله والاردن لم تفتحها الحركة التوسعية الصهيونية حديثا.
لن تنجح الحركة الصهيونية ونتنياهو في تصدير الأزمة السياسية والأمنية والعجز عن تشكيل حكومة، الى الأردن.
فالاردن لم يكن يوما “مكسر عصا” ولا طرفا ضعيفا في اية معادلة. وقد جربتنا العسكرية الإسرائيلية في معارك اللطرون وباب الواد وتل الذخيرة والكرامة والجولان.
ودائما فان معركة الصهيونية، الممتدة طيلة العقود الماضية، هي مع المملكة والملك معا.
حينما وقعت م.ت.ف اتفاقية اوسلو يوم 13 ايلول 1993 في واشنطن، علق الملك الحسين قائلا:
الآن يحتاج السلام ما بين 15-20 عاما !
كان الملك الراحل يعرف بدقة، بنية المجتمع الإسرائيلي السياسية والدينية وما يدور فيها من تطرف وإطماع توسعية، ويعرف ان العقبات والعثرات أمام احلال السلام الشامل القابل للحياة، تحتاج إلى جهود جبارة واموال طائلة، لكنها كما ظل يقول دائما، جهود واموال اقل من الجهود والأموال اللازمة لإدامة الحرب.
وقّع الأردن اتفاقية السلام مع إسرائيل في وادي عربة يوم 26 تشرين الأول 1994، وكان الأردن ثالث العرب في ذلك، بعد مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية.
مرت منذ اوسلو الى اليوم نحو 28 سنة، اكثر مما قدر الملك الحكيم الراحل، والمتطرفون في اسرائيل لا يتوقفون عن ارسال اشارات عدائية وحملات اعلامية وتصريحات مضادة لبلادنا.
التهويش والتشويش على الملك والمملكة ليس جديدا. الجديد هو كراء ادوات اردنية وعربية لتنفيذ طبعته الاخيرة.
الجيش الاسرائيلي لم يتوقف عن القتال والقتل، منذ ما قبل اعلان اسرائيل والى أمد قادم مجهول، والمجتمع هناك يسأل، إلى متى نظل في الفوتيك والطماقات والبساطير والسنوكي والقلق والاحتياط والملاجيء والتفجيرات والرعب والجريمة والنار واتساع ثقب الأوزون الامني والأخلاقي.
أمّا فزّاعة الوطن البديل و”الحكم البديل” وشعار “الاردن هو فلسطين” ومضر زهران والقطاريز الذين يعون هنا وهناك، فهي لن تترك اثرا اكثر من فساء النسر في السماء.