كان كلام جلالة الملك بعد حادثة السلط التي تركت غصة في قلب كل اردني واردنية واضحاً «خلص بكفي» في حديث جلالته حول ضرورة وقف الاهمال والتقصير والتراجع الإداري وما أصاب بعض المؤسسات العامة من ترهل ولا مبالاة؛ وهذا يجعلنا نقف لحظات مراجعة للوقوف على أسباب هذا القصور.
وليس من العقلانية ان نبحث فقط فيما ادى إلى انقطاع الأوكسجين في هذا الحادث بالذات، بل المعالجة الجذرية تتطلب العودة الى الجذور، وهنا السؤال كيف وصل بنا الحال إلى هذا الحال ؟
للاجابة على هذا السؤال لا بد أن نستذكر محطات النجاح الكبيرة في مسيرة دولتنا التي تسعى لولوج المئوية الثانية بقوة وثقة؛ ولعلنا حتى نقفز عن حاجز مئوية الدولة لنبحث في اسباب صمود بتراء الانباط والاثار الرومانية كل هذه السنين امام عوامل الجو والزلازل والكوارث… مرورا بنموذج للادارة الاردنية المتميز، هذه الادارة التي ساهمت في بناء مؤسسات الدول الشقيقة في خليجنا العربي، وما زال الاشقاء يتغنون بها، فالادارة الاردنية كانت نموذجا ولم نبخل بتزويد الاشقاء بالخبرات الكبيرة بهذا المجال فبالنسبة لنا، كل ارض العرب ارضنا?نسعى إلى إعمارها.
وبنظرة عميقة بعيدة عن التفاصيل المؤلمة في حوادث الإهمال والتقصير المفجعة التي أصبحت تتكرر، نجد أن ما فقدناه هو الإخلاص والانتماء الحقيقي.. الإخلاص في كل شيء.. الإخلاص في أعمالنا؛ الاخلاص في انتمائنا؛ الإخلاص في انتاجنا ؛ الاخلاص في تجارتنا؛ الإخلاص في معاملاتنا اليومية وحتى في علاقاتنا وروابطنا الاخلاقية والاجتماعية وكأن البركة نُزعت منا فجأة بذهاب الاخلاص من تفاصيل أعمالنا!.
فالفارق الذي يميز بين من ينظر للمنصب نظرة «تشريف» وذلك الذي ينظر اليه نظرة «تكليف» هو في مدى قدرة كل منهما على الاخلاص في ذلك المنصب والاجتهاد في خدمة وطنه وشعبه… الاخلاص لضميره ولمؤسسته ودولته.. الاخلاص في متابعة شؤون مسؤوليته؛ الاخلاص الذي يوصله مرتبة الشغف بالعمل، وهذه القيمة ان توفرت في المسؤول ستنعكس ايجابيا على المؤسسة والوطن بالعموم!
ولعلّ بدايات الاخلاص تبدأ في عدم السكوت عن الاخطاء ومحاولة تصويبها، وملاحقة التفاصيل الدقيقة التي من الممكن ان تتفجر كقضايا كبيرة في غياب العمل المخلص، وهو ما يقودنا الى الاخلاص في ايقاف ابواب الفساد وسد منافذه، وما أكثر ابوابه ومبرراته لمن فقد قيمة الاخلاص! فالتعامي عن الخطأ واختلاق الذرائع والاسباب له هو «عربون» انهيار قادم لا محالة في اي مكان وفي اي وقت!
ان قيمة الاخلاص لا يمكن بدونها بناء مؤسسات ناجحة تترك أثراً، وهي الاساس الذي يبنى عليه سلسلة طويلة من قيم العمل كالمثابرة والتميز والابداع والابتكار ! فكل ذلك يمكن ان يتحقق دون تمويل ضخم لكنه بحاجة الى هذه القيمة النبيلة لتكون دافعا حقيقيا للعطاء والتغيير والتقدم!
دعونا نتذكر اولئك المخلصين من البناة الاوائل الذين شكل لهم بناء الوطن حكاية؛ اولئك الذين صاغوا الدستور بإخلاص فأصبح أشد المعارضين اليوم يطلب الاحتكام للدستور لانه وجد فيه معيارا للاخلاص للوطن! دعونا نتذكر اولئك الذين اخلصوا في النظر الى مستقبل الوطن عند تأسيسه فنهضوا بالتعليم في القرى البعيدة والبوادي المديدة ليصبح شعبنا من أكثر الشعوب العربية تعلماً! دعونا ننظر الى الاخلاص في بناء القضاء وفي بناء الصروح وفي قوننة الحقوق.. دعونا ننظر الى اولئك الذين أخلصوا للوطن ففكروا وخططوا تخطيطا عمرانيا طويل المدى في ب?ايات عمان وفي استملاكات الاراضي المحيطة بالشوارع العريضة في يومنا هذا؟
لم يكن كل هؤلاء يملكون عصا سحرية.. لكنهم كانوا يمتلئون بالاخلاص والانتماء والرغبة الحقيقية بالعطاء الصادق والوطني الذي لا يختلط بالتجارة والسمسرة والمصالح الشخصية والاجندات الخاصة؛ وكان العمل ولاءً ووفاءً وايماناً لا نفاقاً ولا متاجرةً ولا رياءً! وهذا ما يجب ان نبحث عنه ونؤسس عليه لمئويتنا الثانية، لهذا علينا اعلاء قيم الاخلاص في مؤسساتنا لننهض ونعيد بعث الادارة الاردنية العامة من جديد بحاكميتها الحقيقية المتوازنة، وبقواعدها الصلبة الراسخة في المساواة ودولة القانون، وبعدالتها المستندة الى نظام قضائي مستقل ?كفل الحقوق والعدالة ويردع المسيء والمقصر والمهمل!
هذا فقط ما نحتاج اليه لنتقدم بقوة الى الامام متجاوزين حالة التراخي التي اصابت العديد من مرافق الدولة، علينا ان نعيد الالق الى بنيتنا التحية التي ما زالت شامخة منذ التأسيس وحتى يومنا هذا، فالتنمية المستدامة والراسخة تبدأ من انتاج البنى التحتية الراسخة المتينة في مختلف المجالات والقطاعات والقيم الراسخة التي نعتز بها سواء كانت قيم ثقافية او اجتماعية او سياسية او فكرية وغيرهم، فالتنمية التي تقوم على الثوابت والقيم النبيلة والحاكمية الرشيدة، هي التي تكفل ديمومة تقدمنا ونهوضنا وتطورنا.
باختصار كبير ومباشر يمكننا القول ان الاخلاص هو طريقنا الوحيد للخلاص، وعلينا من اليوم ان نصحح المسار ونعلي قيم الولاء والعطاء للوطن وقيادته الهاشمية.
بقلم العين عبدالرحيم البقاعي