د. عادل يعقوب الشمايله
مُنذُ أن صَنَفتْ مُنظمةُ الصحة العالمية مُسببَ الاعراض التي بدأت تظهرُ على الاف الناس في الصين أولا، ثم في عدد محدود من البلدان، على أنه ليس وباءاً يقتصر على الصين فحسب، بل حربا فايروسية عالمية، وأسمتهُ كوفيد ١٩، تم التعاملُ مع الوباء وتوظيفهِ ضِمنَ خمسة أبعاد متباينة، هي البعد الديني القدري، والبعد السياسي الاقتصادي، والبعد التآمري، والبعد العقلاني الواقعي، واخيرا البعد التقويضي.
أولا، البعد الدِينيٌ القَدَري. تُؤمنُ قطاعات واسعة من الناس في مختلف البلدان، أن كوفيد ١٩ هو عُقوبةٌ من الله. ولذا يجب القبول به على أنه قضاء الله وقدره. هؤلاء الناس لا يستوعبون أنه لو كان عقوبةً من الله، لكانَ ليس بالامكان إتقاءهُ والتغلب عليه، ولبلغ عدد ضحاياه مئات الملايين من البشر إلى أن يقضي الله قضاءا آخر.
الحقيقة كل الحقيقة، أن فايروس كورونا، مؤدب وإبن عيله ولا يدخل البيوت، أو بالاحرى الرئتين، الا من ابوابهما، بعد الاستئذان والترجي والسماح له بالدخول. فالفايروس لا يركض وراء الناس، بل يتركهم بحالهم إن هم ابتعدوا عنه. السلامة منه بسيطةٌ جدا. مُجرد التباعدِ وإرتداءِ الكمامة، وترك العادات القديمة السيئة المتمثلة بالمصافحة والعناق. هذه العادات التي كانت ولا زالت تجلبُ العديد من الامراض المُعديةِ مثل السل والكبد الوبائي والانفلونزا وغيرها كثير.
بالنسبة للمتطرفين دينيا، فإن هذه الاجراءات مرفوضة. وردهم لا يقتصر على رفض إرتداء الكمامةِ ورفض التباعد الاجتماعي، بل مُقاومةَ من يُحاولُ فرضهما عليهم بشتى أنواع المقاومة.
وللدفاع عن هذا الموقف، أو لاقناع الاتباع به، تم توظيفُ الآية القرآنية “قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا”. لم تقتصر المعارضة للاحتياطات من الفيروس على المسلمين فقط، بل ينتمي اليها فئاتٌ مُتزمتةٌ من المسيحيين واليهود، استعانت هي الاخرى بنصوصَ من الكتاب المقدس. وقد شاهدنا على شاشات التلفزة عشرات الالاف من الاوروبيين واليهود والامريكان يخرجون الى الشوارع رافضين الاجراءات الوقائية التي تفرضها حكوماتهم. ووصل الامر بالرئيس السابق ترامب أنْ شجعَ أنصارهُ على إقتحام مكاتب حكام الولايات الديموقراطيين لاجبارهم على إلغائها.
ثانيا البعد السياسي إلاقتصادي ، حمل لواء هذا البعد الرئيس الامريكي السابق ترامب، بُغيةَ استخدامهِ كسلاح رديف ومُعزز لسلاح القيود والرسوم الاضافية على التبادل التجاري في حربه “النصف باردة” مع الصين، واتهم الصين بأنها هي من طورتهُ ومَكنتهُ من الانتشار بعد التستر عليه. ولذلك سماه الفيروس الصيني China virus. لتشويه سمعة الصين عالميا ولإبتزازها في ملفات الملكية الفكرية وكوريا الشمالية وعجز الميزان التجاري، ومن ثم التمهيد لاجراءات أُممية عقابية تحد من الصادرات الصينية التي استحوذت على معظم الاسواق بما فيها السوق الامريكي نفسه. كما اتهم منظمة الصحة العالمية بأنها تسترت على الصين ولم تعلن عن خطورة المرض بصورة أبكر، ناهيك عن رفضها الصاقه بالصين. وعلى هذا الاساس قرر انسحاب بلاده منها . في حين أن هدفه الحقيقي هو إنعاش الاقتصاد الامريكي وتخفيض النمو الاقتصادي الصيني للحيلولة دون وصولها الى الاقتصاد الاول عالميا.
البعد الثالث تآمري. منذ بداية الاعلان عن الوباء، تخبطت اصابع الاتهام، فمرة وجه الى امريكا ومرة الى دول اوروبا العتيقة، ومرة الى الصين. في كل الاحوال حُكِمَ على الوباء أنه مؤامرة دُبرت بليل. وتشكل بناءا على ذلك طابور خامس على مستوى العالم تبنى هذا الطرح.
مع الايام، أثبت الطابور الخامس أن خطره يفوق خطر فايروس كورونا نفسه، لأنه لم يتوقف عن بثِ المزاعم والادعاءات عن نتائج أبحاث علمية طبية تكذب البيانات الرسميةِ وتؤكد خطورة المطعوم وأثاره الجانبية المستديمة وحكاية المؤامرة. كما ضخمت من حجم وتأثير بيل جيت وشركة مايكروسفت الى حد الاقتناع بأنهما يحكمان العالم، فأصبحا يتصدران غالبية بيانات وتصريحات وتسريبات المؤمنين بنظرية المؤامرة.
أُتهم بيل جيت بأنه هو المنتفعُ الوحيدُ من الوباء. فهو من يقف وراء تصنيعه ونشره. وأنّه سيجَنيُ المليارت من اثمان المطاعيم التي سُينتجها أو سيُساهم في إنتاجها. إضافة الى أن هدف المطعوم ليس إنقاذ المُصابين بالكورونا كما تزعم الحكومات والجهات الطبية، بل زرع الشريحة التي طورتها شركة مايكروسفت لتغيير جينات الناس بُغيةَ تطويعهم وتوجيههم ومراقبتهم باستمرار لصالح الحكومة العالمية .
ثالثة الاثافي في مسرحية بيل جيت، هي القول بسعيه لإضعاف خصوبة الناس لخفض التزايد السكاني السنوي وتقصير اعمار البشر ليتقلص عدد سكان الارض الى ٥٠٠ مليون فقط وهو الرقم السحري الذي نُسب قبل سنوات لهنري كيسنجر وزير خارجية امريكا الاسبق، على إعتبار أن بيل جيت اليهودي وهنري كسينجر اليهودي أيضا ينتميان الى نفس المنظمة السرية التي تحكم العالم .
موقف الطابور الخامس، لم يتزحزح رغم ما بدا للجميع أن الاصابات بالفيروس لم تفرق بين الناس حسب درجة غناهم او مناصبهم. كما لم يردهم عن استراتيجيتهم التخريبية رؤيتهم لاقتصادات دول العالم تتدهورُ وفي مقدمتها الدول العظمى الاكثر معرفة وعلوما ودهاءا. لحد الان، لم يفسر الطابور الخامس سر تقبل واستسلام الدول العظمى لمخططات بيل جيت التي أدت الى مزيد من الصعود للصين لدرجة أنها ستتقدم عليها جميعا. وسر صمت شركات كبرى خسرت أو افلست وبقي اصحابها صامتين مع انهم اغنى واكثر نفوذا من بيل جيت وشركة مايكروسفت وبأمكانهم تصفيده بالاغلال حتى يُفصح عن اسرار الفايروس وعلاجه بدلا من التطعيم ضده، ولم يفسر ايضا ، لماذا تقبل الدول العظمى ما حل بها مما اضطرها لضخ مئات المليارات من الدولارات لانعاش اقتصادتها وكمعونات للاسر لانقاذها من الجوع والامراض الاخرى وفقدان مساكنها بعد أن فقدت وظائفها. ولم يتفضل الطابور الخامس بإيضاح مبرر ، استمرار نمو الانتاج الصناعي والزراعي والخدمي العالمي طالما أن سكان الارض سيتراجعون الى ما يعادل سكان اوروبا او أقل من نصف سكان الصين؟
رابعا البعد العقلاني الواقعي. هذا البعد يعكس موقفَ مُعظمِ الاطباء والهيئات الطبية ومراكز البحوث وعلماء الاوبئة والاكاديمين والمستنيرين . هذا الموقف تبنته مُعظمُ حكوماتِ العالم باستثناء الحكومات اليمينية.
على الرغم من الارضية الصلبة التي يقف عليها اتباع البعد العقلاني الواقعي، والمتمثلة باصالة ومصداقية الابحاث والدراسات التي اطلع عليها أو أعدها او شارك فيها أو فحصها منتسبون له، فإنه يتعرض للتشكيك المتصاعد من اطباء ومدعي الطب من مختلف الدول. يُطلونَ على الناس من نوافذ وسائل التواصل الاجتماعي، مما يثقل كاهلهم بعبء مواصلة الدفاع عن موقفهم والتأكيد على الحقائق ودحض الشائعات وتقديم النصح.
ليس من المستغرب أن تلاقي ترهات المُشككين في وجود الوباء او في المطعوم رواجا وتصديقا بين العامة الذين يتناقلوها بلهفةٍ، وغيظٍ، ويأسٍ، وحيرةٍ، عبر الواتسب اب، لأنهم لم يعودوا قادرين على التمييز بين الاكاذيب والحقائق، مما يصعبُ عليهم الوصول الى قرار قاطع. فمن جهة هم يرون ويسمعون عن الوفيات بين أقاربهم ومعارفهم وأصدقائهم. ومن جهةٍ أُخرى يعيشون حالة ذعر من النتائج المزعومة لتلقي المطعوم.
خامسا، البعد التقويضي:
في كتابه نهاية العالم، خَلُصَ يوكوهاما الى نتيجة مفادها أن الرأسماليةَ والقيمَ الديموقراطية قد أصبحتا المذهبين “الخاتم” بعد انهيارِ منظومةِ الانظمة الشيوعية الاستبدادية في عدد من الدول في نهاية الثمانينات من القرن الماضي مما يبرهن من وجهة نظره على عدم ملائمة النظرية الشيوعية للواقع، وفشل تنبئاتها.
وعلى الرغمِ من الانتقادات التي وجهت لنظرية نهاية التاريخ، الا أنها لم تخرج من التاريخ، الا بعد أن تلقت ضربات قاضية من طرفين يقفان على طرفي نقيض. تولى كُلُ طرفٍ منهما ضرب محورٍ من محوري النظرية بعد أن وَفْرَ وباء الكورونا البيئة والسلاح المناسبين.
من ناحيةٍ، استخدمت الصين ظهور فيروس كورونا للإنقضاض على الرأسمالية لتقويضها وإنهاء تاريخها فعلا لا تنبئاً، ثأراً لما حل بمعظم الدول الشيوعية وما لحق بالنظرية الشيوعية من حيف، ولإثبات أن النظرية الشيوعية والاقتصاد الشيوعي هو من يمثل نهاية التاريخ كما تنبأ بذلك كارل ماركس، لأن بُنيته أمنعَ من بنية الاقتصاد الرأسمالي واكثر استقراراً، مما يجعله أقدر على تحمل الصدمات ومواجهة الازمات، ولأنه أقلَ حساسية لمد الطلب وجزره.
هذا، إضافة للرد على سياسات وقرارات ترامب المتعجرفة تجاهها. أي أن الصين استغلت الوباء وتخبط الادارة الامريكية في مواجهته بتسريع وتيرة ضرباتها الموجعة للاقتصاد الامريكي واقتصادات الدول الاوروبية لتتربع هي على الكرسي الحلم.
المحور الثاني من محاور البعد التقويضي هو السعي لتقويض العولمة، والعودة الى الانعزالية وتنازع الاصول والمنابت والاديان والاسواق التجارية. هذا المحور شكل العمود الفقري لبرنامج ترامب الانتخابي مدعيا أنه يريد ارجاع عظمة امريكا، مع ان دوافعه ايدولوجية بحتة. كما أنه مثل إلهاماً لاحزاب يمينية في اوروبا وامريكا الجنوبية.
وقد طابق أداء ترامب الفعلي بعد الفوز برنامجه ووعوده، حيث لم يتوقف عن السعى للقفز من فسطاط يوكوهاما الرأسمالي الديموقراطي ومن عالمية نهاية التاريخ، إذ لم يتوقف عن ضربِ الاقتصادات الراسمالية وحتى شبه الرأسمالية. وزاد على ذلك أن شجع التفسخ والخروج من الاتحادات الاقتصادية والكنفودراليات، ومثال ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، وانسحاب امريكا من المعاهدات الدولية ومن بينها اتفاقية باريس للمناخ، واتفاقية جنوب شرق اسيا للتجارة، ومنظمة الصحة العالمية.
المحور الثالث من محاور البعد التقويضي هو تقويض الديموقراطية وحقوق الانسان.
كان هذا منهج ادارة ترامب داخل امريكا وخارجها. الرئيس ترامب يؤمن بمبدأ الصفرية المشتق من فكرة الموازنة الصفريةِ. The process of zero-based budgeting starts from a “zero base لا ترى هذه النظرية أن من الضروري، أو من المفيد التقيد بالالتزامات والسياسات السابقةِ، وتنصحُ بالبدء دائما من نقطة الصفر. يلاحظ ذلك في كافة خطاباته وتغريداته. فهو أفضل الرؤساء ولا احد يفري فريه في كل مجال، وأن كافة قراراته وارائه جديدةٌ ومبتكرة. فمنذ اليوم الاول بدأ بمهاجمة الرئيس السابق اوباما والحزب الديموقراطي. وكان على رأس اولوياته العودةَ عن كافة انجازات وسياسات اوباما الداخلية والخارجية. مما يعني عدم الاعتراف بتكامل وتراكم الانجازات، وشرعية السياسات المستقاة من برامج انتخابيةٍ قبلها الشعب الامريكي وانتخب الرئيس لينفذها. هذا السلوك يناقض أصول الحكم الديموقراطي وتداول السلطة.
كما تغاضى ترامب عن مخالفات حقوق الانسان في بورما وفي الدول العربية وامريكا اللاتينية وروسيا وافريقيا وفي بلده امريكا حيث اشتدت النزاعات ذات الابعاد العرقية والدينية التي لم يسلم منها السود والهسبانك واليهود والمسلمون.
ولم يعد موضوع حقوق الانسان على جدول اعمال الرئيس والمسؤولين الامريكيين في مفاوضاتهم مع الدول الاخرى.
لا شك أن معظم المتابعين، وخاصة من كان يرى في ديموقراطية امريكا النموذج الحي، الجدير بالتقليد، قد صُدموا وهم يرون رفض ترامب وحزبهِ لنتائج الانتخابات الرئاسية، وعدم احترامه لاصوات غالبية الامريكيين، حين سعى بكل الوسائل القانونية وغير القانونية للانقلاب على نتائج الانتخابات، والبقاء في السلطة من خلال الضغوط والمحاكم والتزوير واخيرا احتلال أتباعهِ مبنى الكونغرس بالعنف الدموي.
لو قدر لترامب ان ينجح، لعمل على تقطيع اوصال العالم، ولشرذم القرية العالمية لتتحول الى ما يشبهُ مجرة درب التبانة في تبعثرها وتباعدها. ولقضى على بصيص الامل الذي يراود شعوب العالم الثالث بأن تستظل بحكم ديموقراطي في يوم من الايام، حيث سيتمترس المستبدون بعد ماذا حل بصومعة الديموقراطية.
إن من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن الديموقراطية اصبحت في مأمن بعد نجاح جوزيف بايدن. إذ أن نهج ترامب لا زال قويا، وهذا ما بدا من مداولات وخطابات زعماء الحزب الجمهوري في اجتماعهم السنوي قبل أيام. حيث أقر معظم المحللين أن الحزب الجمهوري قد اصبح حزب ترامب. وأن النواب والشيوخ الجمهوريين يرون أن فرص نجاحهم في الانتخابات القادمة تعتمدُ على دعم ترامب وتسويقه لهم للناخبين من أنصاره الذين يقاربون ثمانين مليونا. يترتب على ذلك، أن برنامج الحزب الجمهوري سيكون مطابقا لتصورات ورغبات وتهيئات ترامب. كما بدا واضحا أن ترامب سيكون مرشح الحزب الجمهوري بدون منازع في عام 2024. إن تم ذلك، فإن الديموقراطية والعولمة وحرية التجارة والاتحادات وحرارة الكون في خطر خطير