د. مصطفى التل
في ظل انتشار الوباء بشكل سريع جدا , وجدت دول العالم بمختلف تصنيفاتها وقدرة مواردها المختلفة نفسها ضمن 3 خيارات رئيسة لكيفية تفاعلها مع هذا الوباء المستجد : الاستسلام للوباء , أو محاربة هذا الوباء وتفعيل أنظمة الاستنفار داخل الدولة نفسها على مختلف المستويات الاجتماعية والصحية والعسكرية والاقتصادية والعلمية , أو تقديم الاقتصاد على الصحة العامة .
هذه الخيارات الثلاثة التي هي محور التفاعل مع الوباء العالمي , أخذت تتفاعل مع بعضها البعض , لتخرج بعض الدول بمنظومة مدمجة من هذه الخيارات الثلاثة .
* الخيار الأردني للتعامل مع الجائحة ….
ببساطة شديدة , اختار الأردن سلامة شعبه على الخيار الاقتصادي , فتوجه لتفعيل المجال الصحي وإجراءاته الوقائية طمعا في منع انتشار الفيروس من خلال مجموعة إجراءات كانت قاسية جدا على الشعب وعلى الاقتصاد , في سبيل احتواء انتشار هذا الفيروس .
بحيث تم تفعيل نظرية “مدرسة كوبنهاغن” لنظرية العلاقات الدولية التي تركّز على الأمن في الدرجة الأولى , التي من أشهر منظريها , أولي ويفر (Ole Wæver) وباري بوزان (Barry Buzan)، وهي باختصار :
العملية التي تعيد فيها الجهات الفاعلة السياسية تصنيف موضوعٍ ما كمسألة أمنية، ثمّ تستخدم فعل الكلام لإقناع الناس بأهمية المسألة والحاجة إلى تكريس موارد غير متماثلة لها. وإذا نجحت عملية أمننة موضوعٍ ما، يصبح من الممكن تشريع وسائل غير عادية من أجل حلّ إحدى المشاكل التي يجري لحظها. وقد تشمل هذه العملية بالتالي إعلان حالة الطوارئ أو القانون العرفي، بالإضافة إلى حشد القوات العسكرية.
كما أشار لها العميد المتقاعد من المخابرات الأردنية ( سعود الشرفات ) في مقال له حول التجاوب الأردني للجائحة .
الأردن فعّل جميع محاور النظرية العامة على الأرض , فالأردن صرّح بشكل جلي لا يقبل أي شك في رسالة إلى شعبه , بأنه يواجه مشكلة وتحد كبيرين , اعترف بالمشكلة , والخطاب السياسي الأردني حدد المشكلة بأنها ( تهديد للأمن القومي ) , وتعطى الأولوية القصوى في الاستجابة والاستنفار والتعامل من جميع مكونات الدولة الأردنية على مختلف تصنيفاتها .
فالملك عبد الله الثاني وفي خطابه الموجه للشعب الأردني بتاريخ 23/3/2020 استخدم اللغة الأمنية في تفعيل المنظومة للتصدي لهذا الوباء , بحيث جعل كل مواطن في الأردن هو جندي في موقعه للتصدي لهذا الوباء بقوله : (إخواني وأخواتي، عائلتي الكبيرة، أبناء شعبي الذين أستمدّ منهم كلّ العزيمة، اليوم كلّ واحدٍ منكم جنديٌّ لهذا الحِمى، كلٌّ من موقعه).
وعليه تم اتخاذ الإجراءات الفورية والتي وضعت في الإطار الأمني المباشر للتنفيذ , فعّلت قوانين الدفاع , ونفّذ حظراً للتجول غير محدد المدة , وأحكام بالسجن تصل الى عام لمن ينتهك هذا الحظر , وإغلاق شامل لكافة المصالح الاقتصادية العامة والخاصة , بالإضافة إلى انتشار القوات المسلحة بكافة أصنافها من الشرطة والجيش في الشوارع , ووضع نقاط الغلق , وتفعيل الطائرات بدون طيار في سماء المملكة لمراقبة تنفيذ الحظر , ومنع كسره ولو بالقوة الجبرية, إطلاق “أبواق الخطر” وقت بدء سريان الحظر, إغلاق الحدود البحرية والجوية والبرية للمملكة , الحجر الإلزامي للقادمين من الخارج في أماكن تشرف عليها القوات المسلحة , كل ذلك تم بالتنسيق بين وزير الداخلية والقوات المسلحة , مما يعني أمننة التعامل مع الجائحة , ووضع نظرية ( مدرسة كوبنهاغن ) في أمننة المشكلة موضع التنفيذ على الأرض .
حقيقة رغم الإجراءات الأكثر صرامة على وجه الأرض في تلك الفترة , إلا أن الأردن نجح بالسيطرة الفعلية على الجائحة في بداية تطبيق هذه الإجراءات , وانخفضت الإصابات إلى حدود دنيا هي الأقل على مستوى العالم أجمع , وبعض الدول أصبحت تطلق على هذه التجربة الأردنية في التعاطي مع الجائحة اسم ( التجربة الأردنية ) ووضعتها في دولها موضع التنفيذ الفعلي .
ولاحقا تم التعامل مع بعض التداعيات الاقتصادية التي نتجت عن هذه الإجراءات الصارمة , مثل ضخ ما يزيد عن 500 مليون دينار في الأسواق كمساندة لبعض القطاعات المتضررة عن طريق البنك المركزي الأردني من خلال تخفيض الاحتياطات الإجبارية للبنك , وغيرها من إجراءات كانت جزئية وغير شمولية , ولكن في النهاية كانت تهدف إلى التخفيف عن أكثر القطاعات تضررا, كما أعلنت الحكومة الأردنية في وقتها .
* الجهد العلمي التطبيقي الأردني في الاستجابة للجائحة ….
كشفت الجائحة عن خلل عظيم في المجهود الأردني العلمي التطبيقي من خلال الاستنفار العلمي للتصدي للجائحة , نحن مستهلكون لما يجود به علينا العالم الخارجي من انتاجات علمية وطبية و وبائية للتعامل العلمي مع هذه الجائحة .
الوسط العلمي للعلوم الطبية الأردنية التطبيقية ان جاز التعبير , والذي له اتصال مباشر مع مسببات الوباء أصيب بالشلل التام من حيث الانتاج العلمي المبتكر , فالعلوم الطبية التطبيقية التي هي من المفترض أن تكون في أعلى درجات الاستنفار العلمي , والتي هي خط الدفاع الأول في التصدي للجائحة بشكل مباشر , من خلال تطبيق علومها الطبية التطبيقية على الحالة الوبائية , أصبحت مجرد منفذة لما تتلقاها من الخارج , من نظريات عامة , و وسائل طبية , وبعض النظريات التي هي في طور التجريب من قبل الوسط العلمي المستنفر من حيث الأصل في بعض الدول المتقدمة .
ففي الوقت التي تعتبر الأردن فيه نقطة ساخنة لإصابات الفيروس , وانتشاره السريع بين الشعب بمختلف مكوناته , ومهددا رئيسيا للحياة الأردنية بمختلف مستوياتها , فإن شركات الأدوية الأردنية ومصانعها , مع العلماء الأردنيين , لا نجد لهم أي أثر علمي تطبيقي في هذا المنحى للأسف الشديد .
بل كشفت الجائحة عن غياب التخصص الدقيق للتعامل معها , فنجد معظم مَن يتعاملون مع الجائحة عن طريق لجان طارئة , وفرق ميدانية , أغلبهم غير متخصصين في الأوبئة , أو علم المناعة , بل هم من اختصاصات شتى تشمل كل اختصاصات الطب بمختلف فروع هذا العلم , مع ندرة في تخصص علم الأوبئة أو علم المناعة .
فالتحليل الوبائي في الأردن , يفتقر إلى التخصص الدقيق , مما يعطينا فكرة عامة عن مدى التضارب الحاصل في التعامل مع الوباء على أرض الواقع من الناحية العلمية.
فأين تخصص الإحصاء الحيوي , والذي يهتم بالقرارات المصيرية لإنقاذ المريض , وهو العلم الذي يقيّم البيانات المختصة بالصحة العامة , ويوصلها إلى السياسيين لاتخاذ قرارات معينة..؟!!
وأين تخصص علم الأحياء الدقيقة التطبيقي , والذي يهتم بشكل مباشر بالفيروسات والبكتيريا والطفيليات , والذي هو مجال اختصاصه العمل على الوقاية من الأمراض المعدية عن طريق وضع نظم العناية الشخصية ومراقبة ما يتصل بها من بيئة محيطة وتطبيقاتها …؟!!!
وأين تخصص السياسة الصحية والذي هو يعمل بشكل رئيسي على دراسة التطبيقات الموجودة في الواقع، والتعرف على كيفية التعامل مع المرض، والحد من انتقاله …؟!!
فالجائحة كشفت عن نقص وافر في التخصصات الدقيقة المؤهلة للتعامل معها في إطار علمي تطبيقي , مقرونا بنقص أكبر في المجهود العلمي التطبيقي لهذه الجائحة ..
* هل يفتقر الأردن إلى الموارد العلمية اللازمة للعلم التطبيقي الطبي …؟!
حقيقة بالنظر إلى الواقع , الأردن لا يفتقر إلى هذه الموارد , فالجامعات الأردنية منتشرة على طول أصقاع المعمورة الأردنية , وجميعها تمتلك المختبرات , وتمتلك الأكاديميين , وتمتلك الباحثين , وجميع الموارد اللازمة لهذا الميدان .
المستشفيات الجامعية أيضا منتشرة , وكلها تمتلك إمكانياتها , وأجهزتها ومختبراتها , وكوادرها.
ومصانع الأدوية الأردنية منتشرة على الأرض الأردنية , وتمتلك مختبراتها , وأجهزتها , وباحثيها , وإمكانيات هائلة في هذا المجال .
التخصصات الدقيقة اللازمة للانتقال الى العلم التطبيقي أيضا متوفرة وبكثرة في الجامعات الأردنية , وتخرج مئات الطلبة سنويا , والذين لا يجدون أي فرصة لتطوير مهاراتهم العلمية أو حتى الانشغال بما تعلموه , لعدم إفراد مساحة لهم في الجهاز الصحي العام أو الخاص نتيجة غياب التخصصية في ممارسة بعض التطبيقات العلمية الطبية .
* والجميع يتسائل هنا : بما أن الموارد متوفرة بكل ما تحمله الأرضية المشتركة من معنى , أين الخلل …؟!!
عدم التشبيك بين مصادر الإنتاج , وبين علماء الإنتاج , يحمل نذر ليست بالطيبة , ولا يمكن التساهل بها في أي حال من الأحوال .
فالمصانع المختصة بالأدوية , تبحث عن أي فرصة لها لزيادة أرباحها , وتنتظر الآن أي فرصة مواتية لتأخذ أي ترخيص لأي لقاح , لتفوز بتخزينه وتوزيعه , وبالتالي زيادة الأرباح وسط هذه الجائحة القاتلة , وهذا حق لها لا ننازعها فيه , بينما لم تتجه للبحث العلمي التطبيقي , الذي هو مفتاح ثروتها الحقيقية , المالية والعلمية , بل اعتمدت على ما تستطيع جلبه من رخص فرعية لإنتاج أدوية من الشركة المنتجة الأم .
والجامعات , غارقة بديونها , وغارقة بإنفاقها المتضخم الغير مبرر , وغارقة بالبحث عن سبل زيادة دخلها , ولا تعنى بشيء اسمه ( علم تطبيقي ) قد يزيد دخلها وينهي معاناتها , عن طريق الاستثمار فيه . بل أصبحت الهيكلة العامة للجامعة , مجرد علوم نظرية , وكم يأتيها من رسوم الطلبة , وهل تغطي نفقاتها أم لا …؟!!
المستشفيات الجامعية , هي الأخرى تعاني من تكاليف انفاقية عالية , وبعضها غارق في الديون , وتخلّت في الأغلب عن مفهوم ( مستشفى جامعي ) الذي هو مستشفى بحثي تطبيقي.
الخريجون من التخصصات الدقيقة , تائهون بين البطالة القاتلة , وندرة التوظيف في القطاع العام والخاص حسب تخصصهم الدقيق , مما يساهم في تآكل رأس المال البشري سواء في صدأ هذا رأس المال البشري عن طريق فقدانهم للمعلومات والمهارات اللازمة لتخصصهم نتيجة طول تعطلهم عن العمل الذي يسمح لهم بصقل مهاراتهم العلمية التطبيقية , وبين البحث عن أي فرصة لوظيفة بغير مجال تخصصاتهم الدقيقة ليجدوا ما يسدوا به رمق حياتهم به .
وسط هذه الفوضى العارمة , نجد أن جميع الإمكانيات ذهبت أدراج الرياح , ولم تؤتي أكلها كما كان متوقعا منها , كحصاد عام لما تم البناء عليه , من فتح تخصصات دقيقة تطبيقية .
من هنا بات على الجهاز المركزي للدولة التدخل الفوري , لإعادة التشبيك, وتصحيح المسار , ولم تعد الجدوى من انسحاب الدولة من الواقع العام للاقتصاد مجدي , فأزمة كورونا أعادت للعالم مفهوما قديما كان يعتقد أنه تجاوزه في مرحلة من المراحل .
فالعولمة , بدأت بالأفول عمليا من عام 2008 , بعد الأزمة العالمية الاقتصادية , وما أزمة كورونا إلا فاضحة لأفول العولمة عالميا , ودول العالم بدأت بالانغلاق على نفسها , وبدأت بالاستفراد بأي نتاج علمي تطبيقي في مجال الجائحة , بل سعت بعض الدول لاحتكار أي لقاح نتج عن بحث علمي تطبيقي , وعدم تصديره لدول العالم ولو بثمنه .
أزمة كورونا أثبتت أن الدولة التي لديها علوم تطبيقية طبية وتتمتع بالقدرة على الإنتاج في هذا المجال , هي الأقدر على المواجهة الفعلية , بدون آثار اقتصادية مدمرة كباقي الدول التي تفتقد إلى هذه العلوم التطبيقية .
الجائحة كشفت عن خلل في العلم التطبيقي الأردني , بحيث أصبح لزاما الانتقال من مجرد معرفة العلوم نظريا , إلى علم ينزلها على أرض الواقع , ونلمس نتائج النظريات العلمية واقعا, في عالمنا الحالي لن يساعدنا أحد ما لم نساعد أنفسنا .