اللّغة في بعدها الجماليّ والدّلاليّ في رواية “أعشقني” للدّكتورة سناء الشّعلان

40 ثانية ago
اللّغة في بعدها الجماليّ والدّلاليّ في رواية “أعشقني” للدّكتورة سناء الشّعلان

وطنا اليوم:بقلم: عبد الحكيم مداس/ الجزائر.

تُعدّ اللّغة جوهر الإبداع الفكريّ وقوة الفعل الرّوائي الأدبيّ في السّرد المعاصر، إذ لم تعد اللّغة اليوم أداةً محايدةً في نقل الأحداث، أو في وصف المشاهد، أو تحديد التفاصيل، بل أضحت روح السّرد ذاته، وفضاءً دلاليّاً وجماليّاً يتشكّل فيه المعنى، ويتحوّل عبره القارئ الحصيف من صف المتلقي العابر المتأثر إلى عنصر فاعل في بناء النّصّ مؤثّر فيه .
لقد أسهم هذا التّحوّل في الكتابة إلى إبراز عمق اللّغة في الرّواية العربيّة المعاصرة، وجعل منها مجالاً للتّأمل الفلسفيّ وبناء عوالم سردية ذات أثرٍ معرفي ووجداني عميق.
في هذا السّياق، تبرز تجربة الرّوائيّة الأردنيّة الدّكتورة سناء الشّعلان، الحاصلة على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، موضوعاً لكثير من الدّراسات الأكاديميّة في جامعات عربيّة وإسلاميّة، بوصفها تجربة لغوية واعية ومؤسسة لمشروع سردي متميّز شكل بصمة في الأدب العربيّ.
لقد اعتمدت الكاتبة في رواية “أعشقني” على لغة مكثفة وكثيفة، غنيّة بالدلالات الحسية والروحية، تتقاطع فيها خطوط السّردية الشّعرية مع البعد العاطفي الإنساني والروحي والبناء الفكري، في توازن دقيق بين الجمالية الأدبية والعمق الدلالي اللّغوي.
لقد تجاوزت اللّغة في هذه الرّواية من الوظيفة البلاغيّة التقليديّة؛ لتغدو عنصراً جماليّاً منتجاً للمعنى، قائماً على الإيحاء لا التّصريح، وعلى الإيماءة الدّلالية لا المباشرة؛ إذ تتشكل اللّغة من خلال أصوات الشّخصيّات، فيتداخل الوصف بالتّأمّل والمونولوج الداخلي في بنية سردية ثلاثية الأبعاد، تكسر أفق السرد الخطي، وتمنح اللّغة دينامية تدفع بالقارئ نحو غاية معرفية عميقة، تتمثّل في إشراكه في بناء الدلالة، وتحويله من متأثر بالأحداث إلى فاعل فيها مؤثر .
لقد صيغت رواية “أعشقني” بلغة تتّسم بالكثافة الدّلالية، يتجلّى فيها الانزياح بوصفه تقنية أسلوبيّة أخرجت اللّغة من مألوفها التداولي التقليدي المباشر إلى أفق رمزي جمالي روحي، ارتبطت فيه الإيحاءات بالحالة النفسية والوجودية للشخصيات.
لا يأتي هذا الانزياح بوصفه تقنية لغويّة فقط، بل بوصفه رؤية دلالية تسهم في تعميق المعنى وتوسيع أفق التّأويل ليتّسع الفهم والإدراك .
تتميّز اللّغة في رواية “أعشقني” بإيقاع داخلي متوازن مثل كفّتي الميزان، يخلو من التّكرار المخلّ بالمعنى، ولا يضعف الوصف، بل يعتمد على توظيف دلالات تعبيريّة دقيقة تُحدث أثراً متفاوتاً ومتدرّجاً في وعي القارئ.
لقد أسهم هذا البناء اللّغوي في جعل النّصّ الأدبيّ مفتوحاً على قراءات متعدّدة واحتمالات تتفاوت على قدر حصافة القارئ؛ مما أتاح له بأن يكون شريكاً فاعلاً في عملية التّخييل، وإنتاج المعنى، ورسم الأفق اللّغويّ المتفرّد .
لقد أسهمت اللّغة في إحداث تحوّل في الوعي الدّاخليّ للقارئ، عبر شخصيّات تشكلت في ضمير المتكلّم، وخاضت صراعاً ذاتيّاً عميقاً تجلّى في طرح أسئلة وجودية مفتوحة لا تسعى الرّواية إلى تقديم إجابات نهائيّة عنها.
هنا تجاوزت اللّغة حدود التّعبير عن الذّات الباحثة عن المعنى أو الوصف المباشر، لتبني أفقاً مزدوجاً يتقاطع فيه البُعد النفسي الطيني مع البعد الفلسفيّ الرّوحي .
لقد لامس هذان البعدان قضايا الوجود والحب والمعرفة من جهة، وتجاوزا من جهة أخرى حدود الجسد إلى أفق روحي يتصل بعالم القيم والمعنى والأخلاق.
تتكثّف اللّغة في هذا السّياق في صور ورموز تفتح المجال أمام تعدد القراءات لتترك المجال مفتوحاً لتساؤلات وجودية، في ارتباط وثيق بالفكرة التي شكلّت عمق النّصّ الأدبيّ .
لقد اتّخذت اللّغة في الرّواية طابعاً تأمليّاً قريباً من الحسّ الصّوفيّ في بنيتها الدلالية وألفاظها ومعانيها، اختزلت المسافة بين الكاتب والقارئ، وقرّبت الصّورة بين عالم الأمنيات والواقع المعيش.
بذلك جمعت بين التّجربة المادية والروحية والعمق الفكري، دون أن تكون محايدة في بنيتها اللّغويّة، بل ساهمت في تشكيل بُعد فلسفي يجسد التجربة السّرديّة ذاتها.
يمكن القول في اعتقادي المتواضع (محاولة للفهم)، في ضوء ذلك، إن اللّغة في رواية “أعشقني” لغة واعية تؤسّس لتأمّل فلسفيّ متعدّد القراءات، منحت القارئ موقع الشّريك المؤّثر في بناء الدّلالة، وهو ما يفسّر المكانة التي احتلتها هذه الرّواية ضمن مسار الرّواية العربيّة المعاصرة المتميزة .