كتب الدكتور مصطفى حمود النوايسة .
نجح الهاشميون والاردنيون قبل مئة عام في التأسيس ، استراتيجية ادارة الندرة وسياسة عبور المخاطر والتحديات بأقل الخسائر في بناء الدولة كانت طابعا غالبا ، التحديات مرتفعة الكلفة انعكست قوة وتصميما على متابعة البناء والاستمرار والديمومة ومراكمة الانجاز ، الاردنيون قبل مئة عام كانوا ايضا في مواجهة هجمة استعمارية شرسة ضمن اطار اجتماعي قبلي استشعر الخطر وسعئ الى الحد من تداعياته لكن وفق ثقافة قبلية قامت على الغزو والغارة والثأر حالهم حال الكتير من المجتمعات العربية و دون اطار سياسي جامع ، التقى وعيهم السياسي مع مشروع الامة بقيادة الشريف حسين في بناء دولة المشرق العربي التي لو كتب لها الاستمرار لكانت بحجم اوروبا اليوم ،الطموح العربي المشروع تعرض الى هجمة اكثر شراسة بعد ان مثل الشريف حسين طموحات المثقفين والمتنورين العرب في حينه .
تحول الاردن في تلك الفترة الى بؤرة عمل عربي مشترك حقيقي في مواجهة متعددة المحاور على الارض العربية التي كان مقررا ان تكون الدولة العربية فيها من “عدن جنوبا حتى طوروس شمالا ” تحت قيادة هاشمية بمباركة عربية – وضحتها الرسائل التي وصلت – للشريف حسين ، لكنها تعرضت الى تحديات داخلية وهجمات خارجية جعلت من المملكة العربية تقتصر على حكم هاشمي في العراق وسوريا الطبيعية وهي التي جرى الاجهاز عليها ايضا ، نحن نقرأ هنا تاريخنا بعين الاتزان السياسي والتاريخي لتعرف الاجيال المعاصرة معنى مئوية الدولة وطبيعة التضحيات ، الدولة التي كانت بحجم الطموح العربي ، بقيادة عربية هاشمية انقض الفرنسيون على سوريا وانتهى الحكم الفيصلي هناك وادى الانقلاب في العراق نفس المهمة وكشف الانتداب عن قسوة ما كان معدا لفلسطين وانخرط الاردنيون في مواجهة المشروع الصهيوني فيها بعد ان كانت الخلافة العثمانية قد لفظت انفاسها الاخيرة في الاناضول قبل وقت طويل من الثورة العربية الكبرئ ، ليعود الاردن من جديد موئلا لاحرار العرب من هذه الايام .
شروع الاردنيون ومن معهم من العرب في بناء دولة معاصرة من عهد الامير” الملك ” عبدالله الاول عبر قانون اساسي واستحداث بنى الدولة الامنية والعسكرية والاقتصادية ثم الملك طلال ودوره التشريعي في ارساء اكثر الدساتير في المنطقة عصرية ومرونة ، وفي اطول فترة حكم في عهد الملك الحسين تعززت كافة مناحي الحياة في ظل اعتى تيارات المد والجزر القومي والعالمي والصراع على المنطقة وتجاذبات المحاور المتداخلة التي كلفت الاردن كثيرا من التضحيات ، وصولا الى جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله الملك المثقف والقاريء جيدا لخارطة التحديات الوجودية التاريخية والقائمة التي لا يمكن اختصارها في مقال في تاريخنا الوطني ، لكنها سيرة مئة عام من التحدي والصمود والبناء والحرب والشهداء تجعلنا كأردنيين اكثر ايمانا وفخرا بقيادتنا ومؤسساتنا بعد ما وصلت اليه الامور في محيطنا العربي من دمار شامل .
جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله اليوم ليس فقط قائدا اردنيا عربيا يحظى باحترام عالمي بل هو وريث نهج حكم لا يستند فقط الى الفي عام من المشروعية الدينية والسياسية بل هو يمثل في نفس الوقت مسؤولية الانجاز والحكم الطاهر المعبأ بقيم القضية العربية والاسلامية وعلى راسها حماية الاردن واستمراريته والقضية الفلسطينية وتداعياتها وما اضيف اليها من مأسي في الاقليم شكلت العبء الاكبر على الاردن عبر موجات تاريخية من اللجوء لم تكن دول كبرى لتتحملها .
نحن مطلعون وشهود مرحلة وخبرتنا لعقود في العمل العام تجعلنا قادرين على تلمس حجم الانجاز بالمعاينة في كافة المجالات ، نلمس تطورات تشريعية وقانونية تكاد تكون الاكثر عصرية على مستوى الاقليم والعالم في بناء مؤسسات قضائية واخرى تشريعية رائده بحكم خبرتي كأمين عام للمحكمة الدستورية سابقا وتحملي لمسؤولية الامانة العامة لديوان التشريع والرأي حاليا وهي مؤسسات دولة تشكل عصبا مهما في النوعية والاحتراف تعدت كونها مجرد حاجة ملحة لاداء وظيفي حتى بلغت مرحلة الريادة والتطور بعد مئة عام من عمر الدولة من عهد وثيقة الملك الشهيد المؤسس التي عين بموجبها الشيخ محمد الامين الشنقيطي رئيسا لهيئة العلماء والتي تحمل فلسفة تأسيس الدولة نفسها وما اكدته على رجال الدولة من وزراء وقضاة وسائر صفوف المأمورين عسكريين ومدنيين في اهمية حق تمثل الواجبات المترتبة عليهم واتصالها بالوقت الحاضر .
اما في اليات التفاعل السياسي مع المستجدات الاقليمية والدولية انتهج الاردن سياسة خارجية واقعية متزنة بعيدا عن الانفعالات رسخها الحكم الهاشمي عبر مفهوم العلاقات الدولية المرتكزة الى الاتزان في الدبلوماسية الاردنية من لحظة بناء الدولة في فترة عصيبة اجهضت فيها كل مساع السلم العالمي في الفترة مابين الحربين العالميتين الاولى والثانية والتي فرضت على البلاد العربية صعوبات قوضت امنها واستمرت حتى ما بعد انتهاء الحرب الباردة واثناءها وان كان الشريف حسين في وقت مبكر قد اندفع وابناؤه الى اعتماد كافة الوسائل الممكنه للوصول وضمن قدراتهم الى مصالح امتهم حتئ كان تأسيس الامارة وضرورة الاعتراف الدولي بها محكا سياسيا دبلوماسيا صعبا في ظل عقلية اممية فرضتها احداث الحربين العالميتين وصولا لمرحلة اعلان الامارة ثم المملكة و الدولة بشكلها المستقر في جوهر سياسي مؤسسي رافقه بناء جسور التواصل الدولي مع العالم ، وما رافقه من جهد في بناء مؤسسات الخارجية الاردنية واعداد وتأهيل دبلوماسييها ومنها المعهد الدبلوماسي الاردني حيث تشرفت برئاسته مدة سنتين وكان لي ولزملائي في العمل شرف تحمل مسؤولياتنا في تعزيز دوره الوطني والعربي في تأهيل القوى البشرية في المجالات الدبلوماسية والعلاقات الدولية وهو ما منحني وعيا مهما بحجم التطور والتحديث على قدراته واهدافه واستخدامه لتقنيات معاصرة في الاعلام والعمل الدبلوماسي الهادف الى دعم السياسة الخارجية الاردنية والعربية بتوجيهات ملكية سامية امنت كافة الامكانيات لخدمة المصلحة الوطنية الاردنية .
من هنا تجلت دولة المؤسسات والقانون ، في تخصصية نوعية تكاملية في القضاء والمحاكم والتشريع والرأي والعمل الدبلوماسي ومثلها في الاجهزة الامنية والقوات المسلحة والجيش العربي ومنها ايضا النواحي الاقتصادية وهي التي ساهمت مجتمعة في تقوية البناء السياسي و الاجتماعي للاردن .
الرسالة الملكية الى مدير المخابرات العامة ايضا في سياق الرؤية الملكية القيادية الشاملة هي خطوة اولى في عبور المئوية الثانية على اسس التخصصية والوظيفية مع الاحترام للدور الوطني للدائرة التي تحظى باحترام جلالة الملك والشعب الاردني لتضحياتها الكبيرة عبر مسيرة الوطن وهو ما حازت من خلاله مركزا متقدما عالميا ، وهي المؤسسة الوطنية الاردنية التي تحملت اعباء جسيمة في ظل تحديات كبرى فرضت عليها دورا شاملا في مراحل مفصلية ولان ثقة القيادة والشعب في دائرة المخابرات العامة راسخة وهي تؤدي مهامها بتطور ونوعية وانجاز فهي الاقدر ايضا على تمثل الرؤية الملكية بوعي واتقان ، والرسالة وان حملت مشاعر الاردنيين جميعا من خلال ماعبر عنه جلالة الملك الا انها ايضا ووفق قراءة واقعية اعادة تأكيد على ضرورة بلوغ كافة مؤسساتنا مستويات عليا من الكفاءة في الاداء والنوعية والاحتراف اسوة بالدائرة التي حملت وكوادرها العبء الاكبر في تاريخ الاردن المعاصر .