كتب د. محمد عبد الله القواسمة
لا شك أن العصر الذي نعايشه هو عصر الصورة، فهي اللغة الأولى للتواصل البشري، وهي تتجاوب مع صفة السرعة والسيولة، التي فرضتها التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصالات الحديثة؛ إذ يتم التقاط الصورة وانتشارها على الفور، ليطلع عليها الناس مهما كانت ثقافتهم ولغاتهم، وهي تعادل أحياًنًا نصًا كاملًا، وقد يتفاعل معها لفيف من الناس، أكثر من أي مقال سياسي أو أدبي، والصورة لها القوة والقدرة على تتجاوز الحدود والحواجز، وقد يتجمع حولها الناس في قضية أو مسألة عامة. في هذا العصر صار يُنظر إلى الإنسان، كأنه صورة: كيف يضحك؟ كيف يتكلم؟ كيف يكتب؟ كيف يبدو وهو يمارس حياته؟ فلا يُنظر إلى جوهره وحقيقته ودواخل نفسه. في ظل هذه البيئة فإن الإنسان المعاصر يواجه نوعًا من القلق الحاد، الذي لم يجربه بهذه الحدة في سالف الأيام، ألا وهو قلق يمكن أن نسميه قلق الصورة، أي الصورة المثالية التي رسمها لنفسه، واعتاد أن يظهر عليها أمام الناس، ويخشى عليها من التغير أو التشوه. إن الإنسان وسط هذه البيئة تستبد به الرغبة في أن يحافظ على صورته إلى الأبد، فلا يعترف بالزمن، ولا بخربشاته على جسده.
والإنسان، وإن كان يعترف بتغير الأشياء من حوله، فإنه لا يريد لهذا التغير أن يصل إلى ظاهره. وهو يستغل التقنيات التي جاءت بها التكنولوجيا؛ كي يحافظ على جماله ورشاقته، فلا يترك جسده للترهل، فيلجأ إلى عمليات الشد والشفط والنفخ، كي يُبقي على صورته الجميلة، وهو في أثناء ذلك يفقد جماله ورشاقته.
لعل رواية الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد: «صورة دوريان غراي» يمثل بطلها الذي حملت الرواية اسمه في عنوانها صورة الإنسان المعاصر، الذي يريد أن يبقى على قيد الحياة، وهو في غاية الجمال، غارقًا في المتع والملذات. فدوريان غراي شاب فائق الجمال، يبدع الفنان بازيل هولوارد لوحة تظهر جماله وشبابه. ويعجب بهذه اللوحة اللورد هنري ووتون، الذي يتمثل فيه الشيطان، ويسعى إلى معرفة دوريان، ويعقد معه صفقة، تقوم على أن يبقى دوريان( كما تمنى) على صورته الجميلة إلى الأبد، وأن تشيخ اللوحة وتتحمل الآثار التي تنجم عن خطاياه. هكذا يمضي دوريان وراء الشهوات والقتل والجريمة، وتكون اللوحة مرآة روحه، حتى إنه يقتل الفنان الذي رسم صورته، ويترك قتله ندبة على اللوحة. ويستطيع دوريان رؤية اللوحة، فيرى صورته في غاية القبح، فيحاول تدميرها فهي تمثل ضميره الخرب. وبذلك ينتهي عقده مع ممثل الشيطان، وفي النهاية يغدو شيخًا قبيحًا، ثم يموت، ويعود للوحة جمالها السابق.
وتذكرنا هذه الصفقة بتلك التي عقدها فاوست مع الشيطان نفسه، وتقوم، كما ظهرت في مسرحية غوته، على أن ينفذ الشيطان ما يطلبه فاوست؛ مقابل أن يهبه روحه بعد أربعة وعشرين عامًا. ويوقع فاوست بدمه الاتفاق. وينفذ الشيطان ما تعهد به، ويكون لفاوست ما أراده من شهرة ومعرفة، وعندما يحين موعد تنفيذ فاوست ما تعهد به، بأخذ الشيطان روحه يحاول التهرب من ذلك، ويتوسل إليه أن يترك روحه، ولكنه يرفض ويمضى في تعذيب فاوست وتشويه جسده.
وإذا كان الإنسان في العملين: مسرحية «فاوست»، ورواية «دوريان..» يفرط فيهما بروحه للشيطان، فإن رواية «دوريان» أقرب إلى تصوير الإنسان المعاصر وقلقه إزاء الواقع، الذي أصبح فيه مثل دوريان غراي مجرد عارض لصورته، أسير اللذة، والمتعة، يحارب الزمن ويخاف الشيخوخة، ويهتم بالمظهر لا الجوهر، ويهرب من المسؤولية، ولا يعترف بأخطائه.
والخلاصة، إن الإنسان المعاصر في عصر الصورة (كما أرى) بات قلقًا على صورته الخارجية أمام نفسه وأمام الآخرين، دون أن يقلق على روحه وقيمه وضميره، مما سينتهي به إلى المعاناة النفسية والجسدية قبل الموت، كما كانت نهاية بطل رواية أوسكار وايلد دوريان غراي.






