بين التسحيج والعبودية ضاعت الكرامة

30 ثانية ago
بين التسحيج والعبودية ضاعت الكرامة

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

الحرية جيناتٌ وراثية… والعبودية خيارٌ شخصي
في التسحيج العابر للحدود وفلسفة فرشاة الأحذية

الحرية ليست رأياً يُستدعى عند الطوارئ، ولا مفردةً تُقحم لتجميل نصٍّ مُستأجَر. الحرية تركيبٌ داخلي، جيناتٌ لا تُباع ولا تُؤجَّر، تظهر عند أول امتحان وتفضح صاحبها عند أول إغراء. أمّا العبودية—ولنكن أكثر دقّة—فهي قرار واعٍ، اختيارٌ طوعي بأن تُغلق باب السؤال وتفتح درج المقابل، وأن تستبدل الكرامة بسعرٍ قابلٍ للتفاوض.

في المشهد الإعلامي العربي، برزت فصيلةٌ هجينة من المتحدّثين: أبواقٌ متنقّلة، لا ولاء لها إلا لمن يدفع المال، ولا بوصلة لها إلا اتجاه الحوالة. يصفّقون لدولٍ لا يعرفون من تاريخها سوى لون الشعار، ويشنّون حملاتٍ على أوطانهم بعباراتٍ ملساء، مُغسّلة لغوياً، كأن الخيانة إذا كُتبت بلغةٍ رصينة صارت رأياً، وكأن التسحيج إذا جاء من خارج الحدود اكتسب شرعية “التحليل”.

وهنا، لا بد من تشبيهٍ يليق بالمشهد: التملّق والتسلّق لا يشبهان شيئاً بقدر ما يشبهان فرشاة الأحذية. تلك الأداة التي لا تختار الحذاء الذي تُلمِّعه، ولا يختارها الحذاء الذي يُداس بها. هي محكومة بالدور، أسيرة الوظيفة، مهمتها واحدة: إزالة الغبار عن جلدٍ لا تمشي به، ولم ولن تسير معه. هكذا هم المتملّقون: لا حرية لهم في اختيار من يلمّعون، ولا كرامة لمن يلمّعون له أن يعترف بوجودهم. علاقة نفعٍ باردة، ينتهي فيها الطرفان إلى الاحتقار المتبادل.

ولأن العبقرية في هذا المجال تتطلّب أقنعة، تراهم يتقنون فنّ التزوير البلاغي: يسمّون الانبطاح “براغماتية”، ويقدّمون التسحيج بوصفه “قراءة واقعية”، ويُلبسون بيع المواقف عباءة “الانفتاح الإعلامي”. يتحدّثون عن السيادة بألسنةٍ مستعارة، وعن الكرامة وهم يفاوضون عليها في الهامش. إذا سُئلوا غضبوا، وإذا شُكّك في سرديتهم اتّهموا السائل بالجهل أو العمالة—كأن الحقيقة حكرٌ على من وقّع العقد.

الأكثر فجاجة أن بعض هذه الأقلام لا تحتاج حتى إلى راعٍ بعيد؛ يكفيها وسيطٌ محليّ، سمسار آراء، يحدّد النبرة ويختار المعركة ويُسلّم العناوين جاهزة. أقلامٌ تتبدّل كما يتبدّل الطقس، بلا ذاكرة، بلا جذور، بلا عمودٍ فقري. تكتب اليوم ضد ما دافعت عنه أمس، وتدافع غداً عمّا شتمته اليوم—والثابت الوحيد هو السعر.

التهكّم هنا ليس سخريةً مجانية، بل تشخيصاً لمرضٍ مزمن. لأن المشهد—إن نُزع عنه الغبار—مضحكٌ مبكٍ: “إعلامي” يتحدّث عن الشرف وهو يُلمّع أحذية الآخرين، و“محلّل” يشرح الاستقلال وهو يقرأ من ورقةٍ مُموَّلة. يطالب الجمهور بالتصفيق لأنه “جريء”، بينما جرأته الوحيدة أنه قال ما طُلب منه بصوتٍ أعلى.

الأردن—وأيّ وطنٍ يحترم نفسه—لا يحتاج فرشاة أحذية تتباهى بلمعان غيرها، ولا أبواقاً تقيس الوطنية بطول النشرة. يحتاج عقلاً حرّاً، ولساناً نظيفاً، وظهراً مستقيماً. يحتاج إعلاماً يفهم أن النقد من الداخل شرف، وأن المديح من الخارج—إذا كان بثمن—فضيحة.
الحرية لا تُشترى، والعبودية لا تُفرض دائماً. هناك من يولد حرّاً فيرفض أن يكون أداة، وهناك من يختار أن يكون فرشاة لأن التلميع—في سوق اليوم—مربح. والفرق بين الاثنين؟ واحد يمشي مرفوع الرأس، والآخر يلمع الأحذية… ثم يتساءل لماذا لا يُحترم.

جئت من مكب النفايات وستذهب إلى مزبلة التاريخ