د. عادل يعقوب الشمايله
-سيطرت على توجهات الاصلاح الإداري في الأردن فكرة أنَّ مشاكلَ الادارة في الاردن مسألةٌ تقنيةٌ محضة، تتعلقُ بتحسين الكفاءةِ، واختصار بعض الإجراءات وتبسيطِ بعضها الآخر، وتحديث التشريعات الادارية. وقد تجاهل هذا الطرحَ المتكرر في الخطاب الرسمي منذ عقود البعدَ الأعمقَ للمشكلة، والمتصل بممارسات السلطة داخل الدولة، وبالعلاقة البنيوية بين الإدارة العامة والسياسة.
في ضوء هذه الخلفية، تكتسب أطروحة المفكر الأمريكي دوايت والدو، كما عرضها في كتابه الكلاسيكي The Administrative State، أهميةً خاصةً لفهم الواقع الأردني بعيدًا عن اللغة التجميلية التي تداولتها مؤتمرات ولجان الاصلاح.
ينطلقُ والدو من نقدٍ مباشرٍ للفكرة التي طرحها توماس وودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة والقائلة أنَّ الفصل بين السياسة والإدارة أمرٌ ممكن. فدور الادارة العامة، حسبَ رؤيتهِ، لا يقتصرُ على مجرد تنفيذ قرارات صيغت خارجها، بل إنها تُمارِسُ سلطةً فعليةً من خلال ترتيب الاولويات، ووضع الاجندات، وتفسير السياسات، واختيار المستفيدين مما تقدمه الدولةُ من سلعٍ وخدمات. وعليه، فإن القرار الإداري ليس فعلًا محايدًا، بل يحملُ في جوهره اختيارات سياسية وقيمية، حتى وإن قُدِّم بلغةٍ تقنية توحي بالعقلانية والموضوعية.
-التعيينات الحكومية بين الجدارة وشبكات النفوذ:
تكشف التعييناتُ في اجهزة الحكومة الاردنية عن مثالٍ لا لُبسَ فيه للتداخل بين الإدارة والسياسة. فمن الناحية القانونية، تستندُ هذه التعييناتُ إلى اجراءات تتوافق مع مبادئ الجدارة وتكافؤ الفرص. ولضمان تحقق هذا الهدف انشئ ديوان الموظفين ومن بعده ديوان الخدمة المدنية لتنظيم التعيينات وضبطها. غيرَ أنَّ الممارسة الفعلية تُظهر خضوعًا واسعًا لمنطق الواسطة والمحسوبية، والاعتبارات الجهوية والإقليمية، فضلًا عن الاستجابةِ لضغوط النواب المباشرة على الحكومات المتعاقبة وخاصةً مقايضةَ التصويتِ على قوانين غيرَ مرضيٍّ عنها شعبياً او اغماض العين عن ممارسات او اتفاقيات معيبةٍ تتخذها الحكومةُ مقابلَ تعيينات الاقارب والمحاسيب.
أدت هذه الممارسة التي هي الاصلُ وليسَ الاستثناء إلى إضعاف الدور المؤسسي لديوان الخدمة المدنية ووزارة الاصلاح الاداري ووزارة التنمية الادارية. وهكذا تحولت وظيفةُ ديوان الخدمة المدنية الى مستودعٍ للطلبات ومخدرٍ للمنتظرين بنفاذ صبر أن يأتيهم الدور للحصول على وظيفة، وتنظيم إجراءات التعيين وشرعنة قرارات التعيين الفاقدةِ للشرعية. وقد حرصت الحكوماتُ المتعاقبةُ على حرمان الديوان من القدرة الحقيقية الفعالة على فرض معايير الاستحقاق من خلال ضعفِ التشريع المنظمِ لعمله وتعظيمِ سلطة الوزراء على سلطته. فالخللُ يكمنُ في النصوص، وفي ميزان القوة الذي يحكم تطبيقها، حيث تُستخدم القواعد القانونية لتغطية قرارات تُتخذ خارج منطق العدالة والكفاءة.
-الجهوية السياسية وتعيينات القيادات العليا
لا تقتصر الممارسات التي تتجاوز معايير الجدارة والكفاءة والعدالة وتكافؤ الفرص على الوظائف الدنيا والمتوسطة، بل تمتدُ إلى تعيينات القيادات العليا في الجهاز التنفيذي. فقد اصبحَ احدُ ملامح التجربة الادارية الأردنية تعمدُ رؤساء الوزراء منح الأولوية في التعيينات لاقاربهم ولأبناء محافظاتهم أو دوائرهم الانتخابية اضافةً الى الشلل والمحسوبين عليهم، متجاوزين بكل صلافة وتحدٍ واستعلاء حقوق أبناء محافظات أخرى. وبهذا، تحوّلت المواقع القيادية في الدولة، إلى أدواتٍ لإعادة توزيع المنافع السياسية، لا إلى مواقع لخدمة المصلحة العامة.
وفق منظور المفكر دوايت والدو، لا يمكن توصيف هذا السلوك باعتباره انحرافًا إداريًا فرديًا، بل هو ممارسة سياسية مكتملة، تُدار عبر أدوات إدارية، وتُبَررُ بخطابٍ تقني يُخفي طبيعتها الحقيقية.
-القفصُ الحديديُ للإدارة العقلانية:
يبرهنُ هذا التحليل على صواب قراءة ماكس فيبر الكلاسيكية للبيروقراطية بوصفها الشكلَ الأكثرَ عقلنة للسلطة في الدولة الحديثة. فقد رأى ماكس فيبر أن البيروقراطية تقوم على قوانين وانظمة، وتسلسل هرمي، وإجراءات مكتوبة، وهي خصائص تمنحها كفاءة وانضباطًا. لكنه حذّر في الوقت نفسه من تحول العقلنة إلى ما عُرف لاحقًا بـ«القفص الحديدي»، حيث تُدار الشؤون العامة وفق قواعد شكلية منضبطة، بينما تُفرَّغُ من بُعدِها الأخلاقي والديمقراطي إذا غابت عنها الرقابةُ السياسيةُ والمساءلة.
من الواضحِ أنَّ الحالةَ الإداريةُ الأردنيةَ تترجمُ مفهوم القفص الحديدي الذي حذرَ منهُ ماكس فيبر حيثُ لا يقتصرُ الأمرُ على الإفراط في القواعد، بل، في استخدام القواعد والشكل القانوني لتغطية ممارسات تقوم على المحسوبية والولاءات، مما يُفرغ العقلانية الإدارية من مضمونها الحقيقي.
-الكفاءة بمعزل عن العدالة:
تُرَكزُ شعاراتُ وادبياتُ الإصلاح الإداري في الأردن على مفاهيم الكفاءة وترشيد الإنفاق وتحسين الأداء، وهي أهدافٌ لا خلاف على ضرورتها وشرعيتها في ذاتها. غير أن هذه المفاهيم تُكررُ إنشادَ قصائدَ الغزل بها بمعزل عن قيم العدالة والمساواة والمساءلة.
لم يتوانى المفكر دوايت والدو عن التحذير من خطورة هذا الفصل، معتبرًا أنَّ الكفاءة إذا انفصلت عن القيم الديمقراطية قد تتحول إلى أداة لإدامة الاختلالات بدلا من تصويبها.
فالإدارةُ التي تبدو ظاهرياً وشكلياً منضبطةً وفعّالةً، بينما تفتقر إلى العدالة والشفافية، لا تعززُ الثقةَ العامةَ، بل تؤدي الى تعميق الفجوة في الثقة بين الحكومة والمجتمع.
ويتقاطعُ هذا التحذير مع رؤية المفكر ميشيل فوكو التي ترى أن الخطاب التقني قد يصبح وسيلة لإنتاج “حقيقة رسمية” تُقصي النقاش الأخلاقي والسياسي، وتحوّل القرار الإداري إلى أمر لا يُجادَل فيه.
-غيابُ المحاسبةِ هو جوهرُ الأزمة:
على الرغم من الانتقادات المتكررة التي تُبثُ عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ورغم اعتراضات بعض النواب المعارضين لهذا النهج، فإنَّ نمط التعيينات القائم في الادارة الاردنية لم يشهد تغييرًا ايجابيا ملموساً. والأهم من ذلك بل الاخطر، أن هذا السلوك لم يُقابل بمساءلة سياسية حقيقية لرؤساء الوزراء أو الوزراء الذين اتُخذت في عهدهم قرارات تنتهكُ مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص.
وهنا تتجلى أخطر سمات «الدولة الإدارية» كما وصفها دوايت والدو: سلطة تُمارَسُ من خلال الإدارة، لكنها تفلت من المحاسبة لأنها لا تُقدَّم، أصلًا، بوصفها سلطة سياسية.
بالنتيجة، تكشف التجربة الأردنية أن أزمة الإدارة العامة ليست أزمة أدوات أو تشريعات، بل أزمة اعتراف بطبيعة السلطة ذاتها. فالإدارة ليست نقيض السياسة، بل أحد أشكال ممارستها الحديثة. ومن دون هذا الاعتراف، ستبقى دعوات الإصلاح حبيسة المقاربة التقنية، وعاجزة عن معالجة جذور الخلل.
إن الإصلاح الإداري الحقيقي يقتضي نقل النقاش من سؤال «كيف نُدير؟» إلى سؤال «بأي قيمٍ، ولصالح من، وتحت أي مساءلة تُدار الدولة؟». وهو السؤال الذي طرحه دوايت والدو قبل عقود، وتلتقي معه تحذيرات ماكس فيبر المبكرة من عقلانية إدارية تتحول، في غياب الديمقراطية، إلى قفص حديدي بلا عدالة






