وطنا اليوم:أعادت فكرة وجود أرشيف سري في جامعة هارفارد الأميركية، يحفظ فيه كل ما نشر في إسرائيل تحسبا لزوالها، الجدل مجددا إلى الواجهة في المشهد الإسرائيلي.
وهذا السجال المتجدد، الذي اشتد منذ معركة “طوفان الأقصى” والحرب على قطاع غزة، عاد ليطرح السؤال الذي بات يُلازم النقاش العام: هل ستصمد إسرائيل؟ وهو ذاته الذي خيّم على احتفالات دولة الاحتلال بالذكرى الـ77 لقيامها، وسط تصاعد الهواجس مما بات يعرف بـ”عقدة العقد الثامن”.
وتتجه الأنظار نحو ما يسمى بـ”ذاكرة إسرائيل”، المودعة في أرشيف ضخم محفوظ ومفهرس بجامعة هارفارد؛ كضمانة لما قد يحدث في حال لم تستطع إسرائيل الصمود على المسار الذي تسلكه اليوم، واحتمال ألا تصل إلى الذكرى المئوية لتأسيسها.
في هذا السياق، قدّم تحقيق استقصائي نشر في ملحق صحيفة “هآرتس” اليومية الإسرائيلية، قراءة معمّقة لمسار نشأة هذا الأرشيف ومحتواه، في طرح بدا منسجما مع سلسلة من القراءات والتحليلات التي ركزت على مظاهر تفكك إسرائيل من الداخل.
وسلط التحقيق الضوء على اتساع ظاهرة الهجرة من إسرائيل، وتعاظم الشرخ المجتمعي، وانعدام التوافق بين مختلف فئات المجتمع اليهودي في ظل حالة الاستقطاب السياسي المتصاعدة.
وتأتي هذه التحديات لتكرس المغزى الكامن خلف فكرة حفظ الذاكرة الإسرائيلية بكل تفاصيلها خارج حدود البلاد، بوصفها انعكاسا مباشرا لحالة القلق الوجودي التي تهيمن على إسرائيل اليوم.
سيناريو الزوال
تقول معدة التحقيق ميراف موران “في موقع سري قرب بوسطن، تحتفظ جامعة هارفارد بأرشيف ضخم يوثق تقريبا كل ما نُشر في إسرائيل منذ قيامها. وهو يجمع كل ما يشكّل ملامح المجتمع اليهودي، من تقارير مراقب الدولة والصحف المحلية ومنشورات الكُنس والكيبوتسات، إلى ملصقات المهرجانات وبطاقات بيوت الدعارة..”.
وتضيف أن “كل ورقة، مهما بدت هامشية، تُعامل كجزء من “الذاكرة الإسرائيلية” التي تحفظ هناك بعناية مذهلة”.
وبحسب موران، بدأ المشروع أواخر الثمانينيات على يد أمين المكتبة تشارلز برلين، الذي رأى ضرورة حفظ الذاكرة الثقافية الإسرائيلية كاملة خارج حدودها. ومع الزمن “تحول القسم اليهودي إلى أكبر أرشيف من نوعه خارج إسرائيل، يضم مواد رسمية، وخرائط، وبروتوكولات حكومية، ووثائق اقتصادية، ومراسلات من مؤسسات الدولة المركزية”.
الدافع الذي يقف خلف هذا الجهد يرتبط بهواجس وجودية عميقة عنوانها “ماذا لو لم تستمر إسرائيل؟”، وهو سؤال صادم طرحه برلين على الكاتب الإسرائيلي حاييم باير، فتح بابا واسعا لقراءة المشروع بوصفه محاولة لضمان بقاء الذاكرة، حتى إن اختفت الدولة نفسها.
وهذا الأرشيف ليس مجرد مشروع توثيق، كما خلصت موران للقول “بل هو مرآة لقلق يهودي-إسرائيلي مزمن”، وإجراء احتياطي يحفظ كل صغيرة وكبيرة من تاريخ المجتمع خارج حدوده، تحسبا لسيناريو زوال أو تفكك يظل حاضرا في المخيال الإسرائيلي.
مستقبل إسرائيل
في مقال نشرته الكاتبة الإسرائيلية ميراف أرلوزوروف في صحيفة “ذا ماركر”، عادت لتطرح سؤالا بات يتردّد بقوة في إسرائيل: هل ستتمكن الدولة من بلوغ مئويتها؟ وجاءت إجابتها حاسمة “لا، ليس على المسار الحالي”.
تصف أرلوزوروف ذكرى قيام إسرائيل الـ77 بأنها الأكثر قتامة منذ التأسيس، مشيرة إلى أن الاحتفالات الجماهيرية حلت محلها جلسات عائلية تتساءل بقلق “إلى أين نحن ذاهبون؟”.
وتستند الكاتبة إلى وثيقة استثنائية أعدها البروفيسور يوجين كيندال والكاتب رون تسور، وهما من أبرز الذين حاولوا رسم رؤية جديدة لإسرائيل وسط أزمتها المتفاقمة.
وفقا لتشخيصهما، تشهد الدولة انهيارا تدريجيا في الأداء المؤسسي يرقى إلى مستوى التهديد الوجودي، محذرين من أن إسرائيل لن تصل إلى عامها الـ100 ما لم يُتخذ مسار مختلف كليا.
وتؤكد الوثيقة أن النظام السياسي القائم اليوم عاجز عن وقف ما تسميه “الحرب الداخلية بين الأسباط اليهودية”، ولا عن رأب الشرخ العميق الذي يزداد اتساعا في المجتمع، وسط استقطاب سياسي غير مسبوق.
تقول أرلوزوروف “بعد إخفاق السابع من أكتوبر وما تبعه من انهيار وظيفي للمؤسسات الإسرائيلية، لم يعد ممكنا الاستمرار ضمن الإطار نفسه وتوقع نتائج أفضل”.
وترى أنه دون تغيير جذري في البنية الإدارية والتنظيمية للدولة، كما تحذر الوثيقة، ستفقد إسرائيل قدرتها على الاستمرار، وستتحول إلى ذاكرة محفوظة في الأرشيف أكثر منها دولة قائمة.
في هذا السياق، تقول الكاتبة الإسرائيلية إن “وثيقة كيندال وتسور تكشف عن تصاعد القلق داخل إسرائيل من انزلاق البلاد نحو أزمة وجودية حقيقية ما لم يُعَد ضبط المسار سريعا وبشكل جذري، فمستقبل إسرائيل يبدو قاتما”.
وتشير إلى أن استمرار النظام السياسي الحالي وفق منطق “الوضع الطبيعي” يضع الدولة أمام احتمال كبير بألا تتمكن من البقاء كدولة يهودية ذات سيادة خلال العقود المقبلة.
انكشاف وجودي
في مقال له “هل تقترب إسرائيل من نهايتها؟”، يرى الكاتب عوفر غروزبرد، أن ما انكشف في “السابع من أكتوبر” لم يكن مجرد إخفاق أمني، بل ظاهرة قمع جماعي مذهلة؛ إذ يؤكد أن المجتمع الإسرائيلي، على مدى نحو 3 عقود، تجاهل بشكل ممنهج خطر تدميره.
وذهب غروزبرد في مقاله بصحيفة “يديعوت أحرونوت” إلى حد التحذير من أن إسرائيل قد تكون في مسار يقود إلى زوال إذا استمرت في نهجها الحالي. وفق رؤيته، لا قدرة لها على خوض حرب طويلة مع جميع خصومها في آن واحد، ولا على تدمير البرنامج النووي الإيراني بوسائل تقليدية.
ويضيف أن هناك دولا تواجه خطر الاحتلال، لكن “لا توجد دولة في العالم تواجه خطر الزوال كما تواجهه إسرائيل”، ولذلك، بحسب منطقه، “من يريد تدمير إسرائيل يجب تدميره قبل فوات الأوان”.
ولفت إلى أن الصورة العامة لإسرائيل تبدو اليوم أكثر تعقيدا وهشاشة مما كانت عليه في أي وقت مضى، مضيفا أن “الدولة التي بُنيت على فكرة القوة والتفوق والتماسك الداخلي”، تجد نفسها أمام مجموعة من الأزمات المتداخلة التي تفتح الباب أمام نقاش واسع حول مستقبلها.






