الجامعات الأردنية بين التصنيفات العالمية ومعايير النزاهة الأكاديمية

30 ثانية ago
الجامعات الأردنية بين التصنيفات العالمية ومعايير النزاهة الأكاديمية

البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
منذ منتصف القرن العشرين، بدأت الجامعات تُقاس بمعايير تتجاوز حدودها الجغرافية. فبعد أن كانت السمعة الأكاديمية تعتمد على إرث الجامعة وخريجيها، نشأت في تسعينيات القرن الماضي أنظمة تصنيف دولية تهدف إلى ترتيب الجامعات وفق مؤشرات كمية ونوعية، كالإنتاج البحثي، التأثير العلمي، جودة التعليم، والتعاون الدولي. حتى باتت مكانة الدولة العلمية تُقاس بترتيب جامعاتها في تلك القوائم.
من أبرز هذه التصنيفات شنغهاي، والتايمز (THE) وكيو إس (QS)، ولكل منها منهجيته ومآخذه.
تصنيف شنغهاي، الذي انطلق عام 2003، يركّز على الكمّ والتميز البحثي وعدد الحاصلين على جوائز نوبل والأبحاث المنشورة في مجلات مثل Nature وScience، لكنه يُنتقد لتجاهله جودة التعليم والتأثير المجتمعي.
أما تصنيف التايمز، والذي أُنشئ رسميًا عام 2004، ويُعد من أكثر التصنيفات صرامةً في المنهج وشفافية المعايير وشمولها، ويُراجع معاييره باستمرار بالتعاون مع جامعات وهيئات أكاديمية مستقلة، ويعتبر أحد أكثر التصنيفات احترامًا في الأوساط الأكاديمية العالمية.
يقيس التصنيف أداء الجامعات في خمسة محاور رئيسية، تتوزع على 18 من المؤشرات الفرعية، وهي جودة التعليم، والبحث العلمي، والاستشهادات البحثية، والانفتاح الدولي، ونقل المعرفة إلى الصناعة، ويُعبر عن قدرة الجامعة على تحويل المعرفة الابتكار إلى تطبيقات صناعية واقتصادية.
نظراً للمراجعات المستمرة، والتغذية العكسية، تنبهت بعض التصنيفات ومنها تصنيف التايمز الى ادخال مؤشرات جديدة كالتي تتبناه بعض المؤسسات الدولية لتحقيق اهداف التنمية المستدامة. حيث تم زيادة وزن الاستدامة البحثية والبيئية، ولضمان استقلالية البيانات، تشديد التحقق من سلامة البيانات التي تتقدم بها الجامعات عبر تدقيق مستقل، ولضمان النزاهة الأكاديمية (بعد اكتشاف ان هناك خلل كبير في نزاهة البحوث المتقدم بها)، وتوسيع قاعدة الشفافية المالية ومصادر تمويل البحث العلمي، وتطبيق نظام مراجعة الأقران (Peer Verification) في بعض المؤشرات الحساسة مثل السمعة البحثية، لتفادي التلاعب والتضخيم.
التحديث على معايير تصنيف التايمز لعام 2026، والتي سبق وان أعلن عنها في عام 2024، وقبل البدء بتقديم الطلبات خلال الفترة من شهر كانون ثاني ولغاية نهاية شهر اذار من عام 2025، ونظام مراجعة البيانات باستخدام نظام تدقيق متعدد المستويات التقييم، رفعت من مصداقية منهجية التقييم وجودته، وجعلته أكثر عدالة واستدامة، وأعادت إليه جامعات كبرى أدركت أن الالتزام بالنزاهة والتطوير أكثر جدوى من المقاطعة. مما رفع عدد الجامعات المشاركة فيه الى 2191 جامعة من 115 دولة.
ومع ذلك، وُجّهت إليه انتقادات من بعض المؤسسات الأكاديمية التي ترى أنه يخدم أكثر الجامعات الأنجلوساكسونية، لتفوقها الطبيعي في النشر باللغة الإنجليزية ومؤشرات التمويل.
أما تصنيف كيو إس (QS)، الذي بدأ أيضًا عام 2004، فيُعدّ الأكثر انتشارًا من حيث المشاركة الإعلامية وعدد الجامعات (أكثر من 2500 جامعة).
حتى عام 2023 كان يعتمد على ستة مؤشرات، لكنه أضاف ثلاثة جديدة للأعوام 2024–2026، شملت الاستدامة والمسؤولية المجتمعية ونتائج التوظيف والتعاون البحثي الدولي.
غير أن الاعتماد الكبير على استطلاعات الرأي (أكثر من 40%)، والتي قد تتأثر بالعلاقات العامة والدعاية، وعدم وضوح آلية اختيار العيّنة في بعض الاستبيانات، وشراء التقارير التفصيلية يثيران شكوكًا حول حيادة النتائج، رغم الإجراءات المتخذة لتحسين النزاهة مثل تتبع صحة الاستبيانات عبر التتبع للبريد الاليكتروني للجامعة؟ وتعزيز النزاهة المؤسسية.
ورغم اختلاف المنهجيتين بين التايمز وكيو إس (َQS)، فإن الأولى تُعرف بدقتها وتدقيق بياناتها عبر طرف ثالث مستقل، بينما الثانية أكثر مرونة وانتشارًا إعلاميًا. لكن كلاهما يسعى إلى تحقيق العدالة الأكاديمية والتميز المؤسسي في بيئة تنافسية متزايدة.
أن إخفاق عدد من الجامعات، ومنها الاردنية، في التصنيفات يعود إلى ضعف الإنتاج البحثي النوعي، وقلة النشر في المجلات ذات التأثير العالي، ونقص التمويل البحثي، وضعف الشراكات الصناعية، وغياب الحوكمة الرشيدة، فضلاً عن غلبة البيروقراطية على استقلال القرار الأكاديمي، والاعتماد المفرط على التدريس التقليدي وضعف الاهتمام بمهارات القرن الحادي والعشرين وغياب بعض القيادات المؤهلة، والجريئة، والقادرة على اتخاذ قرارات إصلاحية باستقلالية والابتعاد عن المجاملات في إدارة المؤسسة الاكاديمية.
في المقابل، بدأت في السنوات الأخيرة حركة انسحابات من بعض التصنيفات الدولية، سواء من جامعات عالمية كبرى أو جامعات في دول نامية. حيث تعددت الأسباب، منها رفض اختزال جودة التعليم في أرقام جامدة، والتحفظ على دقة البيانات المقدمة من بعض الجامعات (لا تتفق مع الواقع)، والخشية من الضغط المؤسسي الداخلي لتعديل السياسات، ورفض تحويل التصنيف إلى صناعة تجارية تُباع فيها التقارير والمؤتمرات، وتحول بعضها إلى صناعة تجارية.
إلا أن عددًا من الجامعات التي انسحبت عادت للمشاركة بعد أن وجدت أن الانسحاب أثّر سلبًا على سمعتها وفرص تعاونها الدولي، خصوصًا بعد أن أدخلت تصنيفات مثل التايمز تعديلات تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة 2030، فأصبحت تقيس إسهام الجامعات في خدمة المجتمع والحوكمة والشفافية والابتكار، وربط البحث العلمي بمعالجة قضايا الفقر والمناخ والطاقة النظيفة والتعليم المنصف. وبذلك، أصبح التصنيف أكثر اتساقًا مع فلسفة الجامعة المسؤولة مجتمعيًا، والقادرة على توظيف المعرفة المنتجة في بناء مستقبل أكثر استدامة وإنصافًا، والتعديلات المدخلة من قبل الجامعات في استراتيجياتها للمؤامة مع أهداف التنمية المستدامة، الامر الذي انعكس إيجابًا على ترتيبها ضمن تصنيفات التأثير الخاصة بالتايمز (THE Impact Rankings).
من التجربة، نجد أن انسحاب بعض الجامعات الكبرى، أدت الى تقدم شكلي لجامعات أخرى دون أن يتحسن أداؤها فعليًا، مما أثار تساؤلات حول مصداقية بعض النتائج.
على الرغم من السعي العالمي نحو التنافس، إلا أن بعض الجامعات تختار عدم المشاركة طواعية في التصنيفات الدولية لأسباب متنوعة، منها اعتبار بعض التصنيفات أداة تجارية أكثر منها أكاديمية، خاصةً تلك التي تطلب اشتراكات مالية مقابل استشارات، وتقديم تقارير مفصّلة لمساعدة الجامعات في تقديم ملفاتها (وهي التي سبق ان أشار اليها معالي وزير التعليم العالي بتاريخ 9/7/2025).
ان انسحاب بعض الجامعات من بعض التصنيفات، وفي بعض الحالات، قد يكون مبررًا، لقناعتها بان بعض التصنيفات تحولت إلى أداة تجارية أكثر منها أكاديمية. وهو الامر الذي صرح به وزير التعليم العالي والبحث العلمي بتاريخ 9/7/2025، عندما لمّح إلى أن بعض الجامعات، ومنها بعض  الأردنية تدفع أموالاً للحصول على تصنيفات أكاديمية متقدمة، وأحياناً في مقابل أبحاث مُفبركة. كما عبر عن استياءه من موقع الجامعات الأردنية في مؤشر النزاهة البحثيةً، والذي كشف تزوير الأبحاث العلمية فيها، كما أشار الوزير في تصريحاته، الى قيام بعض الجامعات بدفع أموال للاشتراك في مؤتمرات وابحاث دعائية، او منح مسميات شرفية وتعينات فخرية لباحثين أجانب ليتم نسب انتاجهم العلمي للجامعة، بهدف تعزيز رصيدها البحثي في التصنيفات العالمية. في ذلك الوقت أنبرت بعض الأقلام منتقدة تصريحات الوزير، ومدافعة عن أهمية مشاركة الجامعات الأردنية في التصنيفات العالمية، ليأتي انسحاب بعضها من واحد من أهم التصنيفات بعد أقل من ثلاثة شهور من تصريحات الوزير.
في الأردن، بدأت الجامعات منذ مطلع الألفية الثالثة بالمشاركة في التصنيفات الدولية لإثبات حضورها وتعزيز تنافسيتها الإقليمية. كانت الجامعة الأردنية أول من دخل تصنيف QS، تلتها جامعة العلوم والتكنولوجيا، ثم جامعة البلقاء التطبيقية التي دخلت قائمة الألف الأولى في التايمز عام 2019، ووصلت الى فئة 601، والثانية بين الجامعات الأردنية (بعد العلوم والتكنولوجيا) لعام 2021.
على الرغم من ان تصنيف QS، أضاف معايير الاستدامة والنزاهة المؤسسية في تقييمها الحديث للأعوام 2024–2026 (قريبة من تعديلات تصنيف التايمز)، حققت فيه بعض الجامعات الوطنية، نتائج ملموسة، أعلن عنها في منتصف هذا العام، وهي النتائج التي سبقت تصريحات وزير التعليم العالي والبحث العلمي والمنشورة بتاريخ 9/7/2025.
بعد أقل من أربعة شهور من اعلان نتائج تصنيف QS، أعلنت بعض الجامعات الأردنية انسحابها من تصنيف التايمز بتاريخ 8/10، وهو ما فُسّر بأنه رد فعل على نتائج التصنيف المعلنة بتاريخ 9/10/2025، لا على المبدأ الأكاديمي.
أن عدم قدرة بعض الجامعات الأردنية من المحافظة على مستواها، في تصنيف التايمز لعام 2026، التي أعلنت نتائجها يوم 9/10/2025 (يمكن الاطلاع على النتائج الكاملة للتصنيف من خلال الموقع https://www.timeshighereducation.com/world-university-rankings/latest/world-ranking)، اثارت موجة من التحفظ لعدد من الجامعات الأردنية (بعد ان علمت بنتائجها، قبل موعد الاعلان)، التي اعتبرت أن المعايير الجديدة تفتقر إلى العدالة في تمثيل واقع التعليم العالي في الدول النامية، وتميل لصالح الجامعات ذات الموارد المالية الضخمة، والبعض أشار الى انعدام شفافية التصنيف، بالرغم من أنه من الأكثر شفافية بين التصنيفات، وأشار البعض الى وجود رسوم اشتراك في تصنيف التايمز، وعند العودة الى موقع التايمز المبين ادناه
(https://www.timeshighereducation.com/content/world-university-rankings-participation)،
نجد، بانه لا يوجد رسوم على ذلك، واليكم النص باللغة الانجليزية
There are no fees/costs to participate in our rankings))
لكنّ المشكلة أعمق، فهي تتعلق بضعف الحوكمة، وتراجع النزاهة الأكاديمية، وضعف بعض القيادات الاكاديمية، القادرة على اتخاذ قرارات إصلاحية بعيدة عن المجاملات الإدارية، مما جعلها غير قادرة على معالجة الاختلالات البنيوية في الجامعات (حيث بعض القيادات الاكاديمية يجب ان لا تكون في الأصل في الجسم الأكاديمي، لتاريخها العلمي وغيرها من الأسباب).
وفي جميع الأحوال، يجب ألا يكون انسحاب بعض الجامعات الاردنية، بتاريخ 8/10/2025، ذريعة للهروب من نتائج تصنيف التايمز، والتي حققت فيها جامعة اليرموك تقدماً لافتاً (اعتقد بان تقدم جامعة اليرموك في تصنيف التايمز، هو الإجابة على الجهات التي اعتبرت أن المعايير الجديدة تفتقر إلى العدالة في تمثيل واقع التعليم العالي في الدول النامية، وهي الجامعة ذات الوضع المالي الصعب). فالجامعات التي أعلنت الانسحاب من التصنيف، تعلم بالشروط والمعايير من العام الماضي، وتقدمت بطلب المشاركة طواعية في الربع الأول من هذا العام، وكان من الاجدر بها، ان تنتظر الى ما بعد اعلان نتائج التصنيفات رسمياً، وتعلن انسحابها، وهذا يأتي من حيث المبدأ الأكاديمي للجامعة، ومن كافة اشكال التصنيفات، لان المجتمع الأكاديمي يعلم جيداً، معايير التصنيف وأين يكمن الخلل، واحياناً اين يكون التلاعب بالبيانات وكيفية التجارة فيها.
وهنا السؤال، هل يجوز للجامعات المنسحبة القاء اللوم على التصنيف، بالرغم من أنها كانت بالأمس تتغنى فيه، عندما كانت تحقق مراتب متقدمة، وهل ستقوم مجالس الحاكمية في قطاع التعليم، وهيئة الاعتماد وضبط الجودة (وهي المسؤولة عن تدقيق البيانات، قبل ارسالها الى جهة التصنيف)، باتخاذ إجراء بحق بعض الجامعات التي تقدم ببيانات معلنة مع النتائج، لا تتوافق مع بيانات الجامعات المعلنة على موقع الجامعة (اذ لا يعقل ان يكون في احدى الجامعات الرسمية ما يقارب 60℅ من طلابها منقطعين عن الدراسة، او في دوام جزئي؟) وهل ستقرع نتائج تصنيف التايمز جرس الانذار امام أصحاب القرار لما يحصل في التعليم العالي؟
في خضم هذا الجدل، برزت الحاجة الماسّة إلى مراجعة داخلية جريئة في منظومة التعليم العالي، لإعادة بناء الثقة داخليًا وخارجيًا. فالمطلوب ليس الانسحاب من التصنيفات أو الاكتفاء بانتقادها، بل الانتقال من ردّ الفعل إلى استراتيجية إصلاح شاملة، تعيد الاعتبار لقيم النزاهة، وتربط البحث العلمي باحتياجات التنمية، وتستثمر في تطوير أنظمة القياس والجودة وفق معايير عالمية. كما أنه بات من الضروري ان تقوم القيادات الأكاديمية بتحليل نتائج التصنيف، والخروج بتصريحات توضح للمجتمع خطة اصلاح واضحة المعالم ذات مؤشرات قابلة للقياس، توقف التدهور الحاصل في بعض الجامعات خلال السنوات الأخيرة، والذي وصل في تراجع بعضها الى مئات المراتب العالمية (بعضها تراجع من فئة الخمسمائة الى الثمانمائة، وأخرى من فئة الستمائة الى خارج قائمة الالف)، ومن سبعة الى عشرة مراتب على المستوى المحلي. كما يجب تكريم الجامعات التي تقدمت خلال نفس الفترة مئات المراتب العالمية كاليرموك مثلاً، التي تقدمت من فئة أكثر 1200عام 2021، الى فئة 600-800 في التصنيف الأخير. ان التراجع او التقدم في تصنيف التايمز، والذي أعلنت نتائجه سينعكس وبدون شك على التصنيفات الفرعية (جامعات المنطقة العربية، والاسيوية، وتصنيفات التخصصات الاكاديمية).
ان ما يجري في الجامعات الأردنية من تراجع يعود الى نوعية بعض القيادات الاكاديمية في المؤسسات، الا انه لمن المستغرب، اننا لم نرى انه تم مسألة أي من مجالس الحاكمية، او القيادات الاكاديمية عن أسباب تراجع الجامعات، في فتراتهم!
وهنا، يمكن ان يتم طرح بعض التساؤلات، هل تعتقد إدارات الجامعات المنسحبة بان انسحابها سيؤثر على سمعة تصنيف التايمز العالمية؟ وهل يعتقد المنسحبون بان التايمز سيخاطب منظمة اليونسكو وغيرها من المؤسسات الدولية ذات العلاقة للتدخل من اجل عودة الجامعات المنسحبة من التصنيف للمشاركة فيه؟ وهل تعتقد بان التايمز سيقوم بتعديل معاييره لتتناسب مع أوضاع الجامعات المنسحبة؟، ام سيطلب منهم تقديم المعايير التي تناسبهم ليصار الى ادراجها في الطلبات القادمة للتصنيف؟
إن الجامعات الأردنية اليوم، أمام فرصة تاريخية لإعادة التموضع في المشهد الأكاديمي الإقليمي والدولي، عبر الجمع بين التميز العلمي، والنزاهة المؤسسية، والاستدامة المجتمعية، وتحريرها من البيروقراطية، وتعزيز الاستقلالية الأكاديمية، والربط الفعلي بين الأداء والتمويل.
لعلنا نوقف التراجع، وللانتقال لكي نعود نموذجًا يحتذى في التعليم المسؤول والفاعل، ولتساهم في تحقيق التنمية الشاملة، وتحقيق الرؤى الملكية لقطاع التعليم العالي.