البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
في التاريخ السياسي للأمم، هناك أجيال تُعرف بجيل التأسيس والبناء، وأخرى بجيل التعزيز. في الأردن، كان جيل المؤسسين بقيادة المغفور له الملك المؤسس عبد الله الأول من رجالات الدولة الأوائل، والعسكر، والمعلمين، الذين أسسوا الدولة وسط محيط عاصف، وحملوا الفكرة على أكتافهم. تلاهم جيل البناء بقيادة المغفور له الملك الحسين، الذي عمل على حماية مؤسسات الدولة وتطويرها ومواكبة المتغيرات، فكانوا جدار الصمود الذي حفظ للأردن توازنه الداخلي وسط أزمات إقليمية ودولية كبرى، دون أن يفقد الوطن توازنه الداخلي.
هؤلاء لم يتركوا لنا مؤسسات وجغرافيا فقط، بل إرثًا معنويًا أساسه الالتزام والوفاء للوطن، وكان شعارهم الضمني أن العيش من أجله شكل آخر من الشهادة في سبيل الله. تلك الروح جعلت الأردن مختلفًا عن كثير من دول المنطقة، وقادرًا على الصمود وسط أزمات كبرى على مدى العقود. وكأنهم استذكروا ما كتبه روسو “الاستمرارية لا تعني الجمود، بل القدرة على التكيف ضمن إطار القيم الأصلية”.
الملك عبد الله الثاني أكد هذا المعنى بقوله “الأردن لم يُبنَ على يد جيل واحد، وإنما بتضحيات أجيال متعاقبة”. هذه الرؤية ليست مجرد خطاب رسمي، بل خريطة طريق لهذا الجيل، ليبتكر أدواته الخاصة في حماية الدولة وتطويرها بما يواكب العصر.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل استطاع جيل الحاضر أن يترجم تلك الأمانة إلى مشروع وطني متكامل؟ الواقع يكشف فجوة بين وعي الأجيال، فبينما عاش المؤسسون في إطار جماعي يعلو فيه “النحن”، نرى اليوم ميلًا للفردانية (ينطبق عليهم وصيف توكفيل “الأنانية الديمقراطية”)، حين تتحول الحرية إلى مجرد حق شخصي بلا التزام جماعي.
اليوم لا يكفي استدعاء الموروث الوطني كرمزية، بل يجب ربطه بالواقع عبر عقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة والشفافية وتكافؤ الفرص، وهو ما دعا اليه الملك مرارًا.
فالأردن اليوم، يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية معقدة، وضغوط إقليمية لا تهدأ، مما يجعل الأمانة ليست معنوية فقط، بل عملية تتطلب حلولًا ملموسة، تقودها نخب تحقق الرؤى الملكية، وتعمل على تحصين الداخل بالتوازي مع حماية الأردن من ارتدادات الإقليم المشتعل.
على امتداد العقود، النخب السياسية والفكرية كانت تاريخيًا فاعلة، لكن البعض منها اليوم فقدت شرعيتها الشعبية. سليمان الموسى حذر من ذلك، عندما قال إن “الدولة التي تنفصل نخبها عن مجتمعها، تزرع بذور الاغتراب في قلوب شبابها”، ومن هنا تبرز الحاجة لنخب جديدة تعيد الثقة بين الدولة والمجتمع بعيدًا عن شعارات التزيين والتبرير.
الملك شدد على هذه الفجوة بقوله “لا بد أن يسمع المسؤول صوت المواطن، وأن يرى الدولة بعينيه لا بعدسة مكتبه”. إنها دعوة لإعادة بناء جسور الثقة. وللحق، اننا نرى اليوم، رئيس الوزراء يقوم بجهود مقدرة من خلال زياراته الميدانية ومتابعاته المستمرة لترجمة الرؤى الملكية لكي يشعر المواطن بان هناك اهتمام في قضاياه، لكن الطريق ما زال طويلًا للحلول الاقتصادية ومعالجة البطالة، وتحتاج رجالات يغلبون المصالحة العامة على الخاصة.
أما الأمن والاستقرار، فهو خط أحمر، لكنه لم يعد مسؤولية الجيش والأجهزة الأمنية فقط، بل مسؤولية جماعية تحتاج إلى تلاحم داخلي يشعر فيه المواطن أنه شريك حقيقي في صنع المستقبل.
كما لا يمكن انكار دور الأحزاب في صياغة المشهد العام. الا ان بعض الاحزاب والأيديولوجيات تحاول استغلال الفراغ، لا للبحث عن حلول حقيقية بقدر ما هي تسعى إلى تحويل الغضب الشعبي إلى رصيد سياسي، ومستنسخة تجارب دول مجاورة، حيث تحولت بعض الأحزاب إلى منصات للهيمنة لا للبناء. لكن الملك دائم التذكير، بان الأردن ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل بيت لكل الأردنيين.
المشروع الملكي للإصلاح الحزبي، يريدها مؤسسات برامجية تنقل المجتمع من الفردية إلى رحابة العمل المؤسسي. فإما أن تستجيب لدعوة الإصلاح، أو تكرر أخطاء الماضي وتصبح عبئًا على الدولة. وهنا نستذكر تحذير بيرك عندما قال “الحرية من دون حكمة وبلا فضيلة، هي شر أعظم من الاستبداد”.
فالأردن اليوم بحاجة إلى تربية سياسية جديدة، تُقوي الالتزام المجتمعي بعيدًا عن الولاءات الضيقة، تطبيقاً لقول أرسطو “الفضيلة لا تُفرض بالقانون، لكنها تُزرع بالتربية”.
المعادلة واضحة، إمّا أن يكون الأردنيون جيل الحافظين للأمانة، أو يتركوا الوطن في مهب التحديات.
الملك الأكثر ادراكاً بان الزمن قد تغيّر وأن المسؤوليات مختلفة، لكن الثابت هي الأمانة، والحفاظ عليها ضرورة وجودية. وهنا نستعيد قول هايدغر “الإنسان هو الكائن الوحيد الذي عليه أن يختار كيف يكون”. هذا القول يبدو كأنه كُتب للأردن اليوم، حيث الحرية السياسية ما تزال محصورة بين طموح ملكي يريد تحديثًا سياسيًا، ونخب حزبية ونخبوية تخشى أن تفقد امتيازاتها. إنها معركة قيم بقدر ما هي معركة سياسات.
هنا تتجلى المقارنة، فالأولون قادوا مشروع الدولة، وآمنوا أن الفضيلة هي الفعل لا القول، ايماناً بمقولة أرسطو “الفضيلة ليست أن تعرف الخير، بل أن تفعله”، فأفعالهم قيست بميزان الوطنية، وعملوا كفريق، دون استبعاد أي صاحب فكر لمواقف شخصية، واليوم البعض يكتفي بتسويق الشعارات، أو إدارة التحالفات، وتقديم المرتجفة أيديهم من أصحاب المصالح وابعاد اصحاب الكفاءة، اما بالتآمر عليهم او بتشويه صورهم، مستخدمين الحجج الواهية، او أي وسيلة لفرض الامر الواقع، ومتناسياً اننا في زمن التحولات الكبرى، التي تتطلب رجالاً بمعنى الكلمة. وهو ما أشار سليمان الموسى، عندما قال “الأوطان لا تُبنى بالرضا بالواقع، بل بالتحدي المستمر له”، فهل من تحدٍّ أكبر من مواجهة الموروث والجمود الحالي؟ وهذا ما يخيف الكثير من أبناء الوطن.
هذه معضلة الأردن اليوم، نخب تتعايش مع أنصاف الحقائق، وتتحدث عن الإصلاح ولا تمارسه، وتدعو إلى التغيير وهي مستفيدة من الجمود، وهذا يذكرنا بتحذير تيسير السبول، حين كتب “الوطن هو ما نحمله في داخلنا، لا ما يُفرض علينا” واليوم، فإن هذا القول يصلح كجرس إنذار، إذا ما استمرت حيل بعض الخب، سيجد الشباب أن الوطن أصبح، مشروعًا مؤجلاً في يد طبقة متكلسة.
بنفس الوقت علينا ان نتذكر قول الملك، “الأردني لا يساوم على وطنه”، وهي عبارة تختصر فلسفة الدولة التي قامت على التضحية والصمود، وتتجلى رؤية الملك، ليس فقط كقائد، بل كضامن للاستقرار والاستمرار، في زمن التحولات العميقة التي تعصف بالمنطقة (من حيث وجود فائض للقوة في بعض الدول، والانهيارات المجتمعية المتتالة في أخرى)، مما يجعل الأردن في قلب العاصفة. هنا يتضح بان التحدي الأكبر ليس مواجهة الخارج، بل بناء الداخل بمشروع وطني جامع يعيد للأردنيين ثقتهم بأن وطنهم ليس مشروعًا مؤجلًا، بل مسؤولية وجودية.
الرسالة من نخب التأسيس، الذي حفر في الصخر ليبني أساس الدولة، الى نخب التعزيز واضحة، يقودكم ملك هاشمي، جمع بين الحكمة والرؤية والشجاعة في أصعب اللحظات، وأثبت أن القيادة بوصلة تصحّح الاتجاه في زمن العواصف، فكونوا له عونًا، وسندًا في مشروع بناء مستقبل الدولة، فالأردن بحاجة إلى كل يد صادقة وعقل مخلص، كما ولديكم ولي العهد، رمز شباب الأمة وامتدادها، والمؤمن بان التجديد ليس رفاهية، بل ضرورة لاستدامة الوطن، ولمواكبة التحديات المستقبلية، ومعهم يمكن لكم أن تصنعوا نموذجًا جديدًا لدولة قوية، وعادلة، ومتجددة، قائمة على عقدًا اجتماعيًا جديدًا يليق بالأردن ويمنحه مكانه المستحق بين الأمم، وتليق بتاريخ التأسيس وتطلعات المستقبل. مذكرين، بان الأردن، ليس مشروعًا عابرًا ولا دولة وظيفية، بل وطن مستدام في قلب عالم مضطرب، ومستقبله مرهون بقدرة أبنائه على أن يثبتوا أنهم ليسوا جيلًا عابرًا، بل جيلًا أمينًا على الأمانة.
رسالة من نخب التأسيس الى نخب التعزيز… الأردن امانة في اعناقكم
