بقلم : زيد ابو زيد
العالم تغير وهذه حقيقة ثابتة وجلية، وفي إطار ذلك فالشواهد خلصت في جميع العصور أنَّ التاريخ يسير بخطى ثابتة، والعالم يقطع مراحل الازدهار أو النكوص بوتائر ثابتة على الأغلب، وفي خضم ذلك تتطور الأنظمة السياسية، وتنشأ النظريات، وتوضع الفرضيات لعالم المستقبل، وترسم توقعات استشرافية لمستقبل الصناعة والتكنولوجيا، وحتى الوصول إلى المجرات، وعبر ذلك تكتشف العلاجات، وتتطور وسائل الحياة، وطرائق التعليم، وتبرز مدارس سلوكية وتعليمية، والأهم من ذلك تتطور الأنظمة التربوية بوصفها جزءًا من منظومة تطور العلوم الإنسانية التي يقال إنها تتطور ببطء نسبي.
ولكن في خضم صيرورة الحياة تحدث مستجدات عسكرية أو اقتصادية أو صحية كالحروب، وحالات اللجوء، وتفجر العنف والأوبئة، وهي أحداث قد تبطئ أو تعجل في تطور كثير من وسائل الحياة وطرائقها، وبالتأكيد فإن التعليم جزء رئيس من المشهد إلى جانب علاج الأمراض وتقنيات الصناعة وغيرها كثير ، ومن هنا ونحن نعيش عصر الثورة الرابعة فقد أصبح التعليم أكثر مرونة وسهولة وفاعلية ومواءمة بين التعلم التقليدي والإلكتروني، وفيه دور المعلم لا يتوقف على الأداء داخل الحصة الصفية بل هو دور مستمر لتوجيه الطلبة والإشراف على تعلمهم داخل الحصة الصفية وخارجها؛ لأنَّ المعلم مكوّن رئيس للتعلم من خلال استحداث وسائل وطرائق جديدة في مساعدة الطلبة على التعلم والبحث، واستحداث النشاطات الإثرائية التي تغني العقل، وبالتأكيد فدور الطالب وشكل تعلمه سيتغير في ذات السياق، وهذا يعبر عن حقيقة عظمة العقل والإنسان.
من هذا السياق والصيرورة نكتشف لماذا تمر الأمم والأنظمة عبر تاريخها بكثير من مواقف التجربة والخطأ، والهزيمة والنصر، والصعود والهبوط والجمود والحركة، والانحطاط والعلم والنور، والتقدم والتراجع، فالدنيا لا تدوم على حال، وقديمًا قالوا إن ذلك من المحال، ولا شك أنَّ أمتنا العربية التي كبت قديمًا ثم نهضت ثم كبت وتحاول الآن النهوض عبر مشاريع النهضة والتحديث، وليسمح لي القارئ هنا أن آخذ من نموذج الأردن الحديث مثلًا؛ فالأردن الحديث الذي جمع على أرضه أحرار العرب في ثورة عربية نهضوية كبرى آل على نفسه أن يكون مشروعًا قوميًّا عروبيًّا إسلاميًّا عصريًّا حديثًا، ينهل من التراث بقدر ما يأخذ من المعاصرة والتقدم.
لقد انطلقت الدولة الأردنية الحديثة دولة مؤسسات منذ بدايتها، فسارت إلى الأمام خطوات كبيرة، ثم تراجعت بحكم ظروف ذاتية وموضوعية، ولأن الدنيا لا تستمر على حال؛ لأن ذلك من المحال أصبح من الواجب الآن التحديث والتطوير لمواكبة المستجدات، والتكيف مع الواقع، والنهوض بالحال والاستثمار، في المستقبل، وكان الأنسب لنا أن نبدأ من التعليم وتجويده؛ فهو المنتج الأهم، ولتحسينه الأولوية، وبث الإبداع والتميز فيه عنوان المرحلة، وطريق الحداثة والتطوير على أعتاب مئوية الدولة الثانية التي يوجه ملامح مستقبلها صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعزز.
في عالم الغد القريب ستصبح فرص العمل محصورة بمن يتملكون قسطًا أكبر على صعيد الإبداع والمهارات في منظور التجديد والكفاءات الاجتماعية، والعديد من السمات التي لا تنتمي مباشرة إلى عالم التقنية، وهي نقاط القوّة التي ينبغي أن تتمتع فيها منظومات التربية على نطاق واسع، وهي أساس التحديث القادم لأن البشرية تعيش اليوم فجر التوسع الأكبر لفكرة التربية الحرّة في التاريخ الإنساني كلّه، وحيث لا مجال للتطوير من دون نظرية للتطوير، ولذلك كان مشروع التغيير الشمولي في وزارة التربية والتعليم محطةً هامة للعبور نحو المستقبل تحت عنوان مشروع نهضة التعليم لأردن الغد.
ولما كنا بصدد الحديث عن التعليم وتحسينه في بلدنا العزيز؛ فقد توالى على وزارة التربية والتعليم التي كانت تسمى بوزارة المعارف كثير من الوزراء أصاب بعضهم وأخطأ الآخر، واجتهد كلٌّ منهم بواقع من خبرته أو تجربته أو قناعاته، وفي اعتقاده أنه يرفع سوية التعليم.
ولكن تحديات عديدة ظهرت نبهت القيادة الهاشمية ممثلة بالمغفور له بإذن الله الحسين بن طلال الباني الذي رفع شعار “فلنبن هذا الوطن ولنخدم هذه الأمة” فانطلق في بناء المدارس، والمؤسسات الرياضية والثقافية، والمكتبات العامة، ومع ازدياد عدد السكان وكثرة المدارس، ومن ثم ازدياد عدد المعلمين والإداريين كان لا بد من وضع سياسة تربوية حكيمة وثابتة تنهض بالوطن وموارده البشرية، وتحقق مقولة الحسين طيب الله ثراه.
وما بين تغير الوزراء على رأس هرم التربية و التعليم، واختلاف رؤية بعضهم عن بعض في السياسة التربوية، ارتفعت مخرجات التعليم تارة، وانخفضت تارة أخرى، وأمام هذا الواقع، ولما كانت مخرجات عنصرنا البشري هي أساس نهضتنا وتميزنا، وعندما أظهرت نتائج الاختبارات الوطنية والدولية واقعنا بشكل مؤلم وهي حقيقة لا تدل على تراجع بل سكون وثبات في وقت تقدم فيه الآخرون بسرعة وبدأت نماذج تربوية بالاكتمال في محيطنا وبخبرات كثير منها أردنية، وهنا كان لا بدَّ من التغيير والتطوير الجذري، وكانت الانطلاقة نحو المستقبل بالبحث عن أصل المشكلة أينما كانت في المناهج والكتب، وطرائق التدريس، وأسس انتقاء المعلمين والقيادات التربوية وغيرها، وهنا كانت الفكرة في استحداث النظرية؛ إذ إن التربية كما اعتاد البعض وصف طرائقها ومناهجها التلقينية تفرض على الطالب أن يفعل كل شيء بطريقة معينة، وأن يفكر بطريقة معينة، وأن ينصت ويرضخ ويسمع ويطيع، وهذا الأسلوب المتبع لا يصح أن يقال عنه أنه أسلوب تربويّ إطلاقًا، حيث يُنتج في نهاية المطاف جيلًا موجهًا لا يملك القدرات الجسمية أو العقلية الكافية للتمييز بين الصواب والخطأ، ونتيجة ذلك أيضًا يصبح جاهزًا في عصر التعصب والتطرف والعصبيات مسلوب الإرادة، وعرضة للانحراف الفكري والعقائدي، ولهذا الأمر سلبيات وكوارث على الفرد نفسه وعلى مجتمعه، وفي عصر المعرفة والانفجار التكنولوجي وعصر الإبداع والحرية والتميز كيف لموردنا البشري أن ينافس أقرانه في المحيط الإقليمي ناهيك عن العالمي إلا إن استخدم منجزات الثورات التكنولوجية والصناعية في نظامه التعليمي، من هنا كان أن وضعت وزارة التربية والتعليم خطتها الإستراتيجية مسترشدة بأوراق الملك المعزز عبدالله الثاني النقاشية، وبتوجيهاته للأخذ بالاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية لتكون هذه الحصيلة النظرية أساسًا للنظرية التربوية التي تطور نظامنا التعليمي.
وأخيرًا، فإنني أرى أن أهم ملامح المشروع المرتقب لتطوير التعليم والنظام التربوي بشكل عام تهدف إلى المخرجات المتوقعة من عملية التطوير التي تتلخص في إيجاد نظام جديد مرن يزاوج بين التكنولوجيا والتعليم التقليدي، ويراعي تنوع قدرات الطلاب وتباينها، ويتوافق مع متطلبات القرن الحادي والعشرين والثورة المعلوماتية بكتاب يكسب المهارات، ومعلم قادر على النهوض بدوره، ولعل وجود الدكتور تيسير النعيمي على قمة هرم وزارة التربية والتعليم سيسهم في تحقيق المخرجات المرجوة، وهو الرجل الحاذق العالم ذو الخبرات التربوية التي تندر أن تكون عند غيره.