كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
اختلفت التقديرات في تفسير “الصحوة” المفاجئة، التي اجتاحت عواصم غربية حيال ما يجري في غزة من ذبح واقتلاع، تجويع وتهجير، وبدا أن الحكومات التي هبّت زرافات ووحداناً إلى “تل أبيب” بُعيْد السابع من أكتوبر لتقديم النجدة وتقديم “آيات” المؤازرة والمواساة، وبعضها دخل في “شراكة” مع “دولة” الاحتلال في مقارفة جرائم الإبادة والتطهير العربية، بدا أنها قد استحدثت استدارة في مواقفها، وأبقت لنفسها “مسافة أمان”، تباعدها عن “إسرائيل”.
من “الإدانة” و”التنديد” إلى التلويح بالاعتراف بدولة فلسطينية، مروراً بالقاسم المشترك الأعظم: “حل الدولتين”، لم تبق دولة أوروبية تقريباً، إلا وأدلت بدلوها في سياقات هذه “الصحوة” المنسّقة والمتزامنة، والتي بدا أنها ليست مستقلة تماماً عن رغبات “المايسترو الأميركي”، وأنها لم تنبعث حصراً من الدواخل الأوروبية…لكن، مع ذلك، لا يمكن لمراقب عاقل، أن يقلل من شأنها، بصرف النظر عن أسبابها وبواعثها الكامنة والظاهرة، بدلالة ما استحدثته من ردود أفعال داخل كيان الفصل العنصري، عبّرت في معظمها عن الخشية من “العزلة” وتفشي النظرة إلى “إسرائيل”، من قبل حواضنها التاريخية، بوصفها “دولة مارقة ومنبوذة”.
وغني عن التأكيد أن هذه “الصحوة” الرسمية، ما كان لها أن تقفز على السطح، لولا ضيق العالم والمجتمع الدولي بالحرب الإسرائيلية على غزة، التي طالت واستطالت، وتسببت بكل هذه الكوارث لأهل القطاع من مدنيين، رجالاً ونساء وأطفالاً، ولولا أن الرأي العام الأوروبي، قد تفاعل مع فصول الإبادة والتطهير، بصورة غير مسبوقة، على امتداد أشهر الحرب العشرين، وبالذات في الآونة الأخيرة، حيث سجلت مدن أوروبية أرقاماً غير مسبوقة في أعداد المظاهرات والمتظاهرين.
ويمكن الأخذ بتفسير ينتمي في العادة إلى “نظرية المؤامرة”، كأن يقال إنها “صحوة” جاءت بإيحاء أميركي، وفي سياق “تبادل الأدوار” بين القارة القديمة والعالم الجديد…هذا حدث من قبل في أزمنة وأمكنة أخرى، ويمكن أن يكون حدث الآن، ودائماً بهدف احتواء جموح اليمين الفاشي في “تل أبيب”، ومنعه من الإيغال والتوغل أكثر، في الدم والحرمات الفلسطينية.
في مطلق الأحوال، لا التهوين من أثر هذه “الصحوة” مقاربة صحيحة، ولا “التهويل” من شأنها مقاربة صحيحة أيضاً…ذلك أن “الصحوة” جاءت متأخرة جداً، وبعد ارتقاء ما يقرب من ستين ألف شهيد، وتدمير القطاع على رؤوس أهله…و”الصحوة” كذلك، جاءت بمنزلة “دعسة ناقصة” لم تصل إلى مستوى “تجريم إسرائيل”، و”تحريم” الدم الفلسطيني المسفوح بغزارة منقطعة النظير، باستثناء حفنة من العواصم الغربية، لا يزيد عددها على أصابع اليد الواحدة.
كثيرة هي الشواهد الدالّة على أن الصحوة الأوروبية جاءت “To little…to late”، منها استمرار تدفق السلاح الأوروبي إلى آلة القتل الإسرائيلي، كما تعهد المستشار الألماني الجديد قبل أيام قليلة، ومنها التقارير التي تقول بأن باريس ربما تكون بصدد وضع قرارها الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، في سياق يفرغه من مضمونه، كأن يأتي مثقلاً بشروط يتعين على الفلسطينيين الوفاء بها، أو كأن يتم وضعه في سياق “اعتراف متبادل”، يشمل “الكل الفلسطيني” بما فيها فصائل المقاومة، وليس السلطة في منظمة أو منظمة التحرير فحسب…لا ندري بعد، ما الذي يدور في خلد الرئيس إيمانويل ماكرون، ولكن التسريبات حول هذا الموضوع، لا تبدو مريحة للغاية، مع أن فكرة الاعتراف بدولة فلسطينية، غير قائمة على الأرض، ومن دون آليات لنقلها إلى حيز الوجود، تكتسي أهمية رمزية ودلالية لا أكثر، وليس لها من تأثير فعلي يذكر.
مراجعة اتفاقات الشراكة الأوروبية-الإسرائيلية، وتعليق بعض الدول العمل باتفاقات مسبقة أو إرجاء مفاوضاتها معها حول اتفاقات جديدة مزمع إبرامها، جميعها خطوات تندرج في السياق الصحيح، حتى وإن لم تكن كافية تماماً لعزل “إسرائيل” وتدفيعها ثمن جرائمها، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار، أن أوروبا شريك لا غنى عنه من وجهة النظر الإسرائيلية، وهي صاحبة مشروع زرعها في المنطقة (وعد بلفور)، والضامنة لتفوقها ودخولها النادي النووي (مفاعل ديمونا) بالرعاية الفرنسية، بمعنى إن أوروبا قادرة على فعل ما هو أكثر من ذلك بكثير.
لكننا مع ذلك، سنظل محكومين بمنطق “المقارنة” بين المواقف الأوروبية، رسمية وشعبية، وما يناظرها من مواقف عربية، رسمية وشعبية كذلك…هنا تنتهي المقارنة و”المقايسة”، لصالح “الغرب”، ويخسر “العرب” المباراة، على المستويين، الرسمي والشعبي سواء بسواء.
رسمياً، لم نسمع عن حكومة عربية ممن أبرمت سلاماً مع “إسرائيل” أو أقامت تطبيعاً إبراهيمياً معها، أنها ألغت اتفاقاً مبرماً، أو أنها علقت أو جمّدت مفاوضات بشأن اتفاقات محتملة…ظل التنسيق العسكري والأمني و”المناورات المشتركة” جارياً، وبمشاركة جنود وضباط إسرائيليين تلطخوا من رؤوسهم حتى أقدامهم، بالدم الفلسطيني…ظلت شرايين التجارة تمد “عروق” الاقتصاد الإسرائيلي بما يحتاجه من مُدخلات، وكانت العون للمستهلك الإسرائيلي حين تعذر على حكومته تأمين احتياجاته عبر المنافذ الجوية والبحرية…وفي الحالات التي وقع فيها “تعثر” من نوع ما في مسارات التبادل والتطبيع، كان السبب إسرائيلياً.
أما على المستوى الشعبي، وباستثناءات قليلة، تؤكد القاعدة ولا تنفيها، فإن الشوارع الأوروبية، وحتى الأميركية، كانت أكثر نشاطاً من معظم الشوارع العربية، بعضها لم يحرك ساكناً بالمرة، وبعضها الآخر، بدأ يشعر بالسأم والضجر، بالنظر إلى طول أمد الحرب…لقد تطبّع الشارع العربي مع صور الأشلاء والدمار والدماء المُراقة، فيما لم يواجه الشارع الغربي أمراً كهذا.
انتفض الشارع الغربي ضد الإبادة، برغم عمليات القمع والابتزاز والتخويف، وسيف “معاداة السامية” المشهر فوق رقاب أبنائه وبناته…في حين ظل الشارع العربي محكوماً بـ”ثقافة الخوف”، وانغمست دول عربية في حملات إعلامية متنافسة، للبرهنة على أنها “أكثر” من قدم لغزة وأهلها من مساعدات، من دون أن تتكلف عناء السؤال: وما هو مصير هذه المساعدات، وهل بلغت محطتها النهائية منها، أم أنها توقفت على المعابر والحدود؟…ومن دون السؤال كذلك، عمّا إذا كانت “دبلوماسية الإغاثة” التي اعتمدتها دول عربية عدة، بصرف النظر عن فاعليتها، يمكن أن تُغني أو تعوض عن “الإغاثة بالدبلوماسية”، ولو من باب أضعف الإيمان… سقط “النظام العربي” في غزة، والأرجح من دون فرصة ثانية لتجريب حظوظه في النجاح، في حين أخفق “النظام الأوروبي” في الاختبار ذاته، لكن فرص تجاوزه للإخفاق ما زالت قائمة، وربما تتطور تحت وقع المذابح وضغط الرأي العام.
النظامان العربي والأوروبي ليسا صديقين للمقاومة الفلسطينية، وهما يترصدان لها عند كل منعطف وزاوية…لكن شهادة الحق يجب أن تقال، فالنظام العربي، يبدو الأكثر فاعلية في “تطويق” هذه المقاومة وتقطيع شرايين حياتها…وثمة استهداف منهجي منظم لها، ليس في معقلها الفلسطيني فحسب، وإنما في دول الجوار والشتات، ودائماً تحت حجج وذرائع، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، ظاهرها كلام حق، وفي باطنها “يستوطن” الباطل.
لقد شهدنا على ذلك في حملة “تطفيش” القيادات الفلسطينية، التي اعتمدتها الإدارة السورية الجديدة، في أعقاب حملات مصادرة السلاح وإغلاق المعسكرات وكثير من المكاتب، وتابعناها في زيارة مشؤومة قام بها الرئيس الفلسطيني إلى لبنان، لم “يكلف خاطره” في أثنائها، الترحم على آلاف الشهداء من المقاومة اللبنانية بمن فيهم القادة الكبار، وتصرف كما لو كان مبعوثاً رئاسياً لـ”النظام العربي”، الذي يستشعر أن اللحظة دانت لممارسة “أقصى الضغوط” على المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، لإحراجهما وإخراجهما من المشهد، لكأننا أمام واحدة من جولات مورغان أورتاغوس اللبنانية، ومن قبلها جولات آموس هوكستين.
وفي الخلاصة، فإن “الصحوة الأوروبية” على ما فيها من علّات ونواقص، تفتح نافذة، وإن صغيرة، للأمل بقرب حدوث “انفراجة” لغزة، فيما “الغفوة” العربية، كانت وما تزال، عاملاً حاسماً في تشجيع “إسرائيل” على التمادي في غطرستها وتوحشها، دونما خشية من عواقب وعقوبات، مع أن العرب هم من قالوا قديماً: “من أمن العقاب أساء الأدب”، لقد قبلوا بأن تأمن “إسرائيل” العقاب وأن تفلت منه، فما كان منها إلا أن أساءت الأدب والتصرف، لا مع المقاومات العربية وحواضنها فحسب، بل ومع عواصم الاعتدال العربية كذلك.
عن “صحوة الغرب” و”غفوة العرب”
