بقلم إبراهيم السيوف
في مشهد إقليمي يعج بالتحولات الصادمة، لم تعد الضربات الإسرائيلية على سوريا مجرد رسائل نارية عابرة، بل باتت تحمل ملامح مشروع جيوسياسي متكامل، يُنفّذ تحت غطاء “حماية الدروز”، بينما يتجه في جوهره لتكريس أمر واقع جديد يواكب مرحلة ما بعد الأسد، ويعيد صياغة النفوذ على أنقاض سيادة تتشكل من جديد.
لم يكن اختيار التوقيت عشوائيًا. فمع تصاعد أزمات الداخل الإسرائيلي، واحتدام التجاذب العسكري في غزة، وجد صانع القرار في تل أبيب فرصة ذهبية لتصدير أزمته نحو الجنوب السوري، مستغلًا التغيير الجذري في دمشق، حيث تولى النظام السوري الجديد السلطة، مدفوعًا بدعم تركي-قطري صريح، أنهى مرحلة الهيمنة الإيرانية وطيّ صفحة بشار الأسد.
في فجر الثاني من أيار 2025، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مواقع عسكرية سورية قرب القصر الجمهوري في دمشق، وقواعد في حرستا، درعا، القنيطرة، حماة، واللاذقية. لم تميز صواريخها بين دفاع جوي أو نقطة استطلاع أو حتى شريان سيادي لمركز الحكم الجديد؛ لقد كانت ضربة فوق الحزام السياسي، لا دونه، أرادت بها إسرائيل أن تقول: “لا خطوط حمراء في عهد دمشق الجديدة”.
وعلى خلاف سياق الغارات التي استهدفت سابقًا أذرع طهران في سوريا، كانت هذه الضربات موجهة في عمق الجغرافيا السيادية، كأن إسرائيل تعاقب النظام الجديد على محاولة استعادة القرار الوطني من الحرس الثوري، وعلى الاقتراب من محور لا يخضع لابتزاز الغرب ولا لحسابات تل أبيب.
إن تل أبيب، وهي تعي أن نظام دمشق اليوم لم يعد امتدادًا لسياسات الأسد، بل شريك ناشئ لتحالفات إقليمية تتقاطع مع مصالح تركيا وقطر، تدرك أنها أمام مشهد متغير قد يفقدها القدرة على اللعب في الجنوب السوري كما اعتادت لعقدين. لذلك، تأتي ضرباتها الأخيرة لا لردع تهديد، بل لاستباق بناء الدولة الجديدة، ولزرع شوك الردع المسبق في طريق أي مشروع سيادي يحاول التحرر من الوصاية الإسرائيلية.
أما الحديث عن “حماية الدروز”، فهو ستار رثّ لدوافع استعمارية محدثة. إسرائيل تدرك أن الدروز في السويداء ليسوا طائفة هشة تبحث عن وصاية، بل مجتمع متماسك، عصيّ على الاختراق، رفض الاصطفاف خلف إيران ورفض سابقًا جرّه إلى فوضى الأسد. وإذ تبدي تل أبيب اهتمامًا مفاجئًا بهم، فإنما تفعل ذلك طمعًا بجغرافيا السويداء، لا شفقة على سكانها.
وهنا تكمن المفارقة المريرة: أن تُضرب دمشق من فوق قصر رئاسي جديد، لا لأنه يشكّل تهديدًا حاليًا، بل لأنه يملك مشروعًا تحرريًا مستقبليًا. فإسرائيل لا تحارب الأسلحة، بل تحارب الإرادات. وهي تدرك أن سوريا الخارجة من كابوس الأسد، إذا ما أعادت تنظيم جيشها وفق عقيدة وطنية مستقلة، فإن الجنوب سيكون عصيًا على الاختراق لعقود قادمة.
وفي هذا السياق، تُشكّل الضربات الإسرائيلية رسائل للغرب ولتركيا ولقطر على حد سواء: أن تل أبيب لن تقف متفرجة على ولادة نظام عربي جديد يعيد هيكلة الدولة السورية بمعزل عن شبكات النفوذ التقليدية، سواء الإيرانية أو الغربية، بل ستستخدم القوة كلما شعرت أن ميزان الإقليم قد ينقلب على طاولة كانت حكرًا عليها.
ومع ذلك، فإن قدرة إسرائيل على فرض إرادتها بالنار لن تكون مفتوحة على مصراعيها. فالنظام السوري الجديد، وإن كان يتحرك بحذر، لا يبدو راغبًا في ترك الجنوب لقانون الطائرات. وأية محاولة لإعادة التمركز السوري هناك، ستكون مرهونة بميزان دقيق بين الصبر الاستراتيجي والردع السيادي.
ما يحدث في الجنوب السوري اليوم ليس صراعًا على طائفة، ولا خلافًا على موقع عسكري، بل معركة على شكل الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الانهيار، وما بعد الاصطفاف التقليدي. إنها مواجهة بين مشروعين: واحد يريد شرقًا أوسطًا هشًا، مفككًا، تحرسه القواعد الإسرائيلية، وآخر يريد شرقًا محررًا من الوصايات، متوازنًا في تحالفاته، ومستقلاً في قراره.
والسؤال الحاسم: هل سيكون النظام السوري الجديد قادرًا على عبور هذا الحقل الملغم دون أن ينفجر فيه مشروعه؟ أم أن الجنوب سيظل مساحة لتجريب صواريخ الكبار، على حساب بوصلة الاستقلال الوطني؟