الشفافية الغائبة: حينما يُنتزع صوت الشعب من استطلاعات لا تُجيد الإصغاء

34 ثانية ago
الشفافية الغائبة: حينما يُنتزع صوت الشعب من استطلاعات لا تُجيد الإصغاء

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

ينبغي في البدء أن نُسجِّل، دون مواربة، أن ما سيرد في هذا المقال لا يشمل بحال من الأحوال المؤسسة العسكرية الأردنية، ممثّلة بالجيش العربي المصطفوي، ولا أجهزتنا الأمنية الباسلة، فهؤلاء أطهر من أن تُقحم أسماؤهم في حسابات استطلاعية أو شعبوية؛ إذ هم فوق موضع الشك، وأرفع من أن يُقاس عطاؤهم بأدوات الرأي العام المتقلبة، فهم أبناء الدولة وأركان صمودها، وولاؤهم للوطن لا يُختزل في مؤشرات أو أرقام.

من العجائب التي بتنا نشهدها في المشهد السياسي الأردني، أن يُستبدل صوت الشعب ببيانات مقتضبة، تُطلقها الجهات الرسمية تحت عناوين منمقة من قبيل: “تشير الدراسات”، أو “تفيد نتائج الاستطلاع”، وكأن هذه العبارات وحدها كفيلة بأن تُكسب ما يليها قداسة الحقيقة المطلقة، دونما حاجة إلى تبيان السياق أو عرض المنهجية أو الكشف عن تفاصيل العينة المُستطلعة. المواطن، بدوره، يفيق على هذه التصريحات في وسائل الإعلام كما يفيق المرء على حلمٍ لم يره، فلا هو استُشير، ولا هو سمع بمن استُشير.

في خضم هذا الغموض المنهجي، يبرز مثال استطلاع الرأي الأخير الذي تناول موقع حكومة الدكتور بشر الخصاونة في وجدان الشارع، وهو الاستطلاع الذي أُجري خلال أواخر نيسان من عام 2023، واستُند فيه إلى عينة لا تتجاوز 1200 فرد، وُزّعت مناصفةً بين الذكور والإناث، واقتصرت على الفئة العمرية الواقعة بين 18 و50 عاماً. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، لا بلسان الشك وإنما باسم المنطق: أيمكن لشريحة بهذا الحجم، وبهذا التحديد العمري، أن تكون مرآةً صادقةً لوطن بأسره؟ هل يُعقل أن تُختزل إرادة الملايين في بضع مئات؟ وأن تُقصى فئات مجتمعية بأكملها، لمجرد أنها خارج إطار الفئة المُختارة؟

إن في هذا الانتقاء المجتمعي، المتعمد أو العفوي، نوعاً من الإقصاء الممنهج، لا لطبقات سكانية فحسب، بل لآراء وتجارب وقيمٍ تشكّل عماد النسيج الوطني. إن تجاهل صوت كبار السن، وتهميش القاطنين في القرى والمخيمات والأطراف، وغضّ الطرف عن الطبقات المهمشة اقتصادياً وثقافياً، لا يمكن إلا أن يُنتج نتائج مشوهة، مصنوعة في فضاء نخبوي، لا علاقة له بالميدان الحقيقي الذي يضجّ بالتحديات والمعاناة اليومية.

أما التفاعل الشعبي مع هذه الاستطلاعات، فقد بات ينحو منحى السخرية اللاذعة. إذ يتداول الأردنيون عبارات تفيض بالتهكم: “لعلّ الاستطلاع جرى في أروقة مجلس الوزراء”، أو “ارتفعت نسبة الثقة لأن الناس فقدت حتى الرغبة في التعبير”، وهذه الترهات الساخرة، وإن جاءت في صيغة نكتة، إلا أنها في جوهرها مرآة لغضب دفين، وشعور متفاقم بالغربة عن المؤسسات، ورفض لما يُقدّم باسمهم دون علمهم.

إن استطلاع الرأي، في جوهره، ليس تمريناً علاقاتياً، ولا وسيلة تجميلٍ لصورة السلطة، بل هو ممارسة ديمقراطية رفيعة، لا تكتسب شرعيتها إلا من خلال وضوح المنهج، وعدالة التمثيل، وحياد الجهة المنفّذة، وعلانية النتائج بتفاصيلها الدقيقة. وأي إخلال بهذه المعايير، يُفرغ هذه الأداة من مضمونها، ويحوّلها إلى بيان إنشائي فاقد للروح والمصداقية.

ليس من المقبول أن تُستخدم الاستطلاعات كذريعة لشرعنة الأداء الحكومي، أو كقناع لإخفاء التململ الشعبي، ولا أن تُختزل فكرة “الثقة الشعبية” في أرقام مبتورة لا تنقل إلا نصف الحقيقة. فالثقة، إذا لم تكن نابعة من مشاركة حقيقية، وشفافية كاملة، فإنها تظل وهماً براقاً، سرعان ما ينكشف زيفه أمام أول اختبار حقيقي.

إن المأمول من الدولة، في هذه اللحظة المفصلية، ألا تُراكم الغموض على الغموض، ولا أن تفرض سرديتها على الناس، بل أن تنفتح على المجتمع بكل مكوناته، وأن تسترد أدوات القياس النزيه لما يفكر فيه الناس، لا ما يُراد لهم أن يعتقدوه. ففي غياب الشفافية، لا يُمكن بناء الثقة، وفي غياب الثقة، لا تقوم الدول المستقرة، ولا تُصان شرعياتها