بقلم د. محمد عبد الله القواسمة
غيّر الذكاء الاصطناعي من طريقة عمل الإنسان، وأسلوب حياته، وتفاعله وتواصله مع غيره. وبدأنا نتلمس من خلال تطور الذكاء الاصطناعي واستخدامه مخاطره على الإنسان ومستقبله. فلم يكتف بعض الناس باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي (ChatGPT)،وجي بي تي-4 (GPT-4)، وكلود+ (Claude+) وغيرها وسائل وأدوات للبحث، والوصول إلى المعلومات، وتصحيح الأعمال الكتابية وتدقيقها، بل تخطى ذلك إلى تكليف الذكاء الاصطناعي بإنتاج الأبحاث والأعمال الإبداعية، مثل الرواية، والمقالة، والخاطرة، والقصة القصيرة. وتبلغ الخطورة أوجها حين ينسب الإنسان لنفسه ما أنتجته الآلة، ويعلن بأنه هو الكاتب وهو الأديب.
على ضوء التجربة الشخصية قدّم لي أحد الباحثين دراسة عن شاعر معاصر، ورجا أن أقرأها، وأقدّم ملاحظات عليها. أعجبني من النظرة الأولى عنوان الدراسة، وحسن صياغة الفقرة الأولى من مقدمتها. ومع القراءة بدأ الإعجاب يتحول إلى ملل، ثم يتحول الملل إلى استياء، ثم تحول الاستياء، مع تلاحق المصطلحات دون ضرورة، وسريان الأسلوب على نمط واحد ودون علامات ترقيم إلى غضب. أسرعت في القراءة، والقفز عن الصفحات حتى انتهيت؛ فرميت البحث إلى حيث سلة القمامة.
انتابني الشك في أن البحث ليس من عمل بشري بل هو من عمل الآلة، وأزلت الشك باليقين عندما عرضت أجزاء منه على مواقع الكشف عن الذكاء الاصطناعي؛ فهالتني النتيجة بأن 96% من البحث من إنتاج الذكاء الاصطناعي. كررت الكشف أكثر من مرة، وكانت النتائج متقاربة. اتصلت بالباحث واعتذرت عن إبداء ملاحظات عن البحث، ولم أحرجه بذكر جريمته التكنولوجية.
من غرائب المصادفات أني كنت في اليوم التالي من تلك الحادثة عند أحد الأصدقاء الناشرين، فحدثني عن مجموعة قصصية قُدمت له من إنتاج الذكاء الاصطناعي، وعندما كاشف كاتبها المزيف اعترف له بذلك، وأنه أقدم على فعلته ليحقق رغبته بأن يصبح كاتبًا، نصحه بأن يبحث عمن يكتبها له من جديد، أو من يقربها لتكون من عمل مخلوق بشري.
هكذا وصلت الحالة ببعض الكتاب إلى تسليم أقلامهم إلى الآلة لتكتب لهم ما شاؤوا من أجناس كتابية، ليضعوا أسماءهم عليها مع اعتزازهم بما فعلوه، يعتقدون بأنهم سينجحون في خداع القراء، وهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم. فلا يمر هذا النوع من الكتابة حتى على القارئ العادي؛ لأنها ببساطة كتابة بلا روح، بلا مشاعر، بلا عواطف إنسانية.
لكن ما نخشاه أن تعم هذه الحالة، وتنتشر بين الكتاب والأدباء انطلاقًا من اتباع الطريق السهل؛ ففي ساعات يُصدر الكاتب أو الأديب الذي يتقن استخدام الذكاء الاصطناعي كتابًا في النقد، أو يصدر رواية، أو مسرحية، أو مجموعة قصصية في غاية الأناقة، خالية من الأخطاء اللغوية والطباعية. والأخطر من ذلك أن يستمرئ الناس هذا النوع من الكتابة، ويقبلون على القراءة، فيكثر عدد الكتاب المزيفين، ويغدو الأدب مثل الجماد لا حياة فيه، ويصبح الإنسان قريبًا من الروبوت، فاقدًا الإحساس بالجمال.
على الإنسان في خضم هذا التطور الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته أن يبقى سيد هذه التكنولوجيا، يراقبها، ويتحكم فيها، ويستخدمها، لتيسير حياته، والارتقاء بعقله ووجدانه. ويجب على النقاد والأكاديميين التنبيه إلى مخاطر إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات البحث المختلفة، وعدم التساهل بل فضح من يتخطى قواعده وقوانينه العلمية والأخلاقية، كما أن على عاتق الأديب ألا يسلم قلمه إلى الآلة؛ فيكون كمن يسلم سلاحه لعدوه، أو كمن يسلم روحه للشيطان، كما فعل فاوست في مسرحية غوته المشهورة