بقلم إبراهيم السيوف
في لحظةٍ فارقة من التاريخ، حيث تتزاحم الأزمات، وتتناسل الفتن من رحم العجز الدولي، ينهض الأردن لا بوصفه دولة تحترف الحياد، بل كصوت الضمير العربي والقانوني الأخير، مُصدِرًا موقفًا لا يحتمل التأويل، ولا يقبل أنصاف الحُلول.
لم تكن تصريحات وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بأنّ “إسرائيل تدفع المنطقة نحو حرب إقليمية شاملة”، مجرد تحذير دبلوماسي عابر، بل جاءت بمنزلة بلاغ رسمي إلى الضمير العالمي، وإشعارٍ سياديٍّ موجَّه إلى المنظومة الدولية، بأن صبر المنطقة قد بلغ منتهاه، وأن صمت القوى الكبرى بات سكينًا مغروزًا في خاصرة العدالة.
فالأردن، الذي يقف على تخوم اللهيب، ليس طرفًا محايدًا في نزاعٍ عابر للحدود، بل ركنٌ مركزيٌ في معادلة الأمن الإقليمي، وصاحب ولايةٍ شرعية على القدس ومقدساتها، بوصاية هاشمية ارتضاها التاريخ، وأقرتها الاتفاقيات، وشهدت لها الأعراف السياسية والدبلوماسية. ومن هذا الموقع، لا يُطلق الأردن تحذيراته بلغة الانفعال، بل بلغة الدول العاقلة حين تدق أجراس الخطر.
إن ما يجري في فلسطين المحتلة يتجاوز في توصيفه حدود “النزاع”، ليلامس عتبات الجرائم الدولية المركّبة، من قتل ممنهج، وتدمير واسع النطاق، وتجويع جماعي، وحصار شامل. وإنكار ذلك هو تواطؤ بالصمت، يُخالف التزامات الدول بموجب اتفاقيات جنيف، والمادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تُلزم الدول بصون السلم، ومنع العدوان، ومحاسبة المعتدي.
الأردن اليوم لا يناور بل يُنذِر، لا يفاوض على ثوابت بل يُحذّر من المساس بها. والقدس، في وجدان الدولة الأردنية، ليست ملفًا تفاوضيًا، بل قضية هوية وسيادة وشرعية تاريخية لا تقبل القسمة ولا التسويات المبتورة.
لقد اختار الأردن، في لحظة انهيار المواقف، أن يكون صاحب البلاغ العربي الأخير، لا يتردّد في فضح ازدواجية المعايير، ولا يخجل من توجيه أصابع الاتهام إلى من اختاروا التفرّج على الدم، تحت مظلّة “الواقعية السياسية”، وهي واقعية مشروخة، تنهار عند أول اختبار أخلاقي.
وفي مواجهة هذا الانهيار الدولي، يتحصّن الأردن بشرعية موقفه، وبصلابة حقه، وبمشروعية وصايته، ويخاطب العالم بأسره:
“إن ما يجري اليوم هو اختبار قاسٍ للمنظومة الدولية، فإما أن تنهض بمسؤولياتها، وإما أن تنزلق إلى هوّة تقويض الذات.”
فإذا اندلعت حرب إقليمية شاملة، فلن تكون حدودها عند النهر أو البحر، بل ستتخطى الجغرافيا نحو نسف ما تبقّى من منظومة القانون الدولي.
المملكة الأردنية الهاشمية، في بيانها غير المكتوب، تعلن للدنيا أن السكوت خيانة، وأن الغياب عن الموقف شهادة زور على مذبح الحق. وما لم تُراجع الأمم موقفها، فإن التاريخ سيسجّل أن صوتًا خرج من عمّان، حاملاً نُذُر العاصفة، ولكنّ العالم اختار أن يُدير ظهره لليقظة الأخيرة.
فيا سادة القرار في العالم،
هذا الأردن لا يُجيد المواربة حين تُهان القضايا، ولا يعرف النكوص حين يُستدعى التاريخ.
هو مملكة الحرف الصادق، والكلمة الجريئة، والسيادة التي لا تُستجدى…
هو الإنذار، والدرع، والبلاغ.