وطنا اليوم _بقلم: لؤي البشير
في وقت يزداد فيه المشهد الإقليمي تعقيداً، ويستعر فيه الغضب من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، برز الأردن مجدداً في موقع مفصلي، يجمع بين حماية أمنه الداخلي من محاولات الفوضى والتخريب، وبين مواصلة حمل صوته العروبي والدبلوماسي دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين وكرامتهم أمام المجتمع الدولي.
قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن واعتبارها “غير قانونية”، جاء بعد إعلان رسمي عن ضبط خلية إرهابية مكوّنة من 16 عنصراً، تعمل منذ عام 2021 على تصنيع صواريخ وطائرات مسيّرة داخل الأراضي الأردنية، باستخدام مواد شديدة الانفجار وأدوات تم تهريبها من الخارج.
الخطر لم يكن مجرد مشروع تخريبي، بل محاولة عابثة للعب بالنار داخل بيت مستقر في منطقة مليئة بالقش الجاف.
الأردن لم يتعامل مع القضية من باب الاستعراض الأمني، بل باعتبارها لحظة دقيقة تستوجب تطهير الداخل من كل ما يمكن أن يُستخدم ذريعة، أو نقطة ضعف، أو ورقة بيد أطراف خارجية قد تتذرّع بهذه الممارسات لتبرير تدخلها، أو لفتح جبهات جانبية في ظل اشتعال الساحة الفلسطينية.
في الوقت ذاته، لم يغب الأردن عن المسرح الدولي.
بل كان جلالة الملك عبدالله الثاني في طليعة الزعماء العرب الذين حملوا صوت غزة إلى المحافل الدولية، مؤكداً أن ما يجري ليس صراعاً عادياً، بل مأساة إنسانية وسياسية تتطلب موقفاً واضحاً من المجتمع الدولي.
وفي كل كلمة ألقاها، من القمم إلى اللقاءات المغلقة، لم يهادن جلالته في الحق الفلسطيني، ولم يساوم على الثوابت:
لا حل خارج إطار الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا عدالة بدون إنهاء الاحتلال، ولا استقرار في الإقليم دون إنصاف شعب خسر كل شيء إلا إيمانه بحقه.
إن الجهود الدبلوماسية الأردنية لم تكن ناعمة، بل متماسكة وذكية، تسير بين حقل ألغام سياسي، وتحاول إقناع الدول الكبرى بأن دعم إسرائيل دون ضوابط أخلاقية أو قانونية، لن يجلب سوى المزيد من العنف والتطرف وعدم الاستقرار.
ومع ذلك، يبدو أن إسرائيل، المدفوعة بغرور القوة ودعم غير مشروط، تسعى إلى توسيع رقعة الاشتباك، وتحويل كل ساحة غير مؤيدة لمخططاتها إلى عدو محتمل أو ميدان للعبث.
لكن الأردن – بخطابه المتوازن وسياسته الحذرة – يرفض أن يُستدرج إلى لعبة الفوضى.
هو يعرف موقعه وحدوده، لكنه لا يساوم على عروبته، ولا على مسؤوليته الأخلاقية تجاه فلسطين وغزة تحديداً، التي تدفع الثمن الأثقل من دماء أطفالها وشبابها ونسائها منذ شهور.
بين الأمن والسياسة: معركة بحكمة لا بعاطفة
نجح الأردن في توجيه رسالة مزدوجة:
أن أمنه الداخلي خط أحمر، وأنه سيضرب كل من يحاول زعزعته أو توريطه في معارك ليست من أولوياته الوطنية.
وفي المقابل، فإن غزة ليست بعيدة عن وجدانه ولا عن حساباته الاستراتيجية، لأن ما يجري هناك اليوم سيتردد صداه في كل بيت عربي، ولأن السكوت على الجريمة يصبح مشاركة فيها.
هكذا تحرّك الأردن في الداخل بصلابة، وفي الخارج بحكمة.
وفي كل ذلك، كان صوت الملك عبدالله الثاني حاملاً لخطاب عربي متقدم، لا يرضى بالبيانات الرمادية ولا بالمواقف المائعة.
في لحظة الحقيقة، الحياد لا يكفي
اليوم، ونحن نقترب من نقطة تحوّل في طبيعة الصراع في المنطقة، لا يكفي أن نراقب من بعيد أو نكتفي بالدعاء.
إن ما فعله الأردن داخلياً وخارجياً خلال الأيام الماضية هو تجسيد لما يجب أن تكون عليه السياسة العربية في هذا الزمن المضطرب:
أمن داخلي مصون، وقرار سياسي مستقل، وموقف أخلاقي لا يتغيّر بتغيّر المصالح أو الضغوط.
في لحظةٍ ما، سيسأل التاريخ: من وقف، ومن سكت، ومن تواطأ؟
والأردن، رغم كل تحدياته، يُجيب اليوم بصوته وسياسته ومواقفه: نحن مع الإنسان، مع القانون، ومع الحق.