القضية أكبر من الخطاب فالوطن لا يحتمل الهشاشة

دقيقتان ago
القضية أكبر من الخطاب فالوطن لا يحتمل الهشاشة

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

في ظلّ ما يمرّ به الوطن من لحظات فارقة، وما يكتنف الإقليم من اضطراب وتقلّب، كان الأمل معلَّقًا على مجلس النواب، بوصفه أحد أعمدة الدولة الدستورية، ليرتقي إلى مقام التحدّي، ويصدع بالحكمة، ويُعلي شأن المسؤولية الوطنية الجامعة. غير أن ما شهدته قاعة المجلس الموقر يوم أمس، لم يكن إلا انحدارًا مؤسفًا عن جادة الرشاد، وسقوطًا مريعًا في هاوية الخطاب المتشنج، والقول المجافي للعقل، والمشوب بالانفعال.

لقد انحرفت مداخلات بعض السادة النواب عن سمتِ الرصانة، وتخلّت عن مبدأ التعقّل الذي هو عُدّة رجل الدولة وميزان المواقف الرشيدة، فحادت الكلمات عن جادة الصواب، وجاء الخطاب خاليًا من دعوات الوحدة والتكاتف، مفتقرًا إلى روح الانتماء الجامع والاحتكام إلى ثوابت الوطن.

وما يزيد المشهد ألماً أن القضيّة التي كانت موضع النقاش لا تزال في حُكم القضاء الأردني العادل، ذاك الذي عُرف باستقلاله، واتّساع صدره للحق، ونزاهته التي نعتز بها ونركن إليها، كما قال جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين – حفظه الله ورعاه – في غير موضع:
“لا أحد فوق القانون، فسيادة القانون أساس الدولة المدنية، والحكم الرشيد لا يقوم إلا على عدالةٍ نزيهةٍ تُطبّق على الجميع.”

فأيّ جرأة هذه التي يتخطّى بها بعضهم مقام القضاء، ويتعجل في إصدار الأحكام، ويوزّع صكوك الوطنية ويُلغي المواطنة كأنما الوطن ضيعةٌ خاصة، أو ميراثٌ يُتناقل؟ وهل نسي هؤلاء أن الأردن – بحكمة قيادته وعدالة مؤسساته – لم يكن يومًا في يد الأهواء، بل ظلّ حصنًا للدستور، وسندًا للعدل، وصوتًا للعقل في زمنٍ كَثُرَ فيه الضجيج؟

لقد قال الراحل العظيم، جلالة الملك الحسين بن طلال – طيّب الله ثراه – كلمةً خالدةً تصلح أن تكون ميزانًا لكلّ موقف:
“الحرية مقرونة بالمسؤولية، ولا حرية دون التزام، ولا التزام دون احترام الإنسان كغاية لا وسيلة.”

فأين هذا الاحترام حين يُداس الحق، ويُقصى المواطن، ويُجعل من البرلمان منبرًا للخصومة بدل أن يكون ركيزة للعدالة والتوازن؟ وهل هكذا تدار شؤون الوطن؟ وهل هكذا يُخاطَب العالم عنّا ونحن نُبثّ على الهواء مباشرة، كأنما نعري ذاتنا بأيدينا ونشوّه ما بقي من رصانة الخطاب الوطني؟

لقد بدا المشهد للعيان صورة لا تليق بمجلس يُفترض أنه عنوان الإرادة الشعبية، ولا تعبّر عن الأردن الذي طالما كان مثالًا في الاتزان، ومختبرًا حيًا لنجاح التجربة السياسية القائمة على الحكمة لا الهوجاء، وعلى الثوابت لا الأهواء.

وإننا – ونحن نرقب هذه اللحظة الوطنية الحساسة – نُجدد التأكيد بأننا جميعًا في خندق الوطن، وأنه لا مجال للمساومة على أمنه أو وحدته أو سِلمه المجتمعي. ولن نسمح، ولن نتهاون، مع أي جهة أو حزب أو فرد، تُسَوِّل له نفسه أن ينال من هيبة هذا الوطن، أو أن يعبث بثوابته الراسخة. إنّ ما قامت به الخلايا الإرهابية هو نقطة فاصلة في التاريخ الأردني الحديث، وناقوسُ خطرٍ لا يمكن الاستخفاف به، يستدعي منا جميعًا وقفة شاملة وواعية.

وقد كان من الأجدر – بل من الواجب السياسي والأخلاقي – على حزب جبهة العمل الإسلامي أن يُصدر بيانًا واضحًا، لا لبس فيه، يدين ويشجب ما جرى، ويتبرأ صراحةً من جماعة الإخوان المسلمين المنحلّة، التي لا تمثله – إن لم يكن كذلك – ولا تُعبّر عن نهجه السياسي ولا الوطني. وكان لزامًا عليه أن يُعلن بجلاء أنه يقف في خندق الدولة، والدستور، والقيادة الهاشمية، ضد كل من يتربّص بأمن الوطن ويُهدّد استقراره.

إن العقلاء في هذا الوطن، وهم كُثر، يتعاملون مع هذه القضيّة بكثير من الحكمة والتؤدة، إيمانًا بأن الانفعال لا يصنع العدالة، والاندفاع لا يخدم الوطن، بل يسيء إليه. ولأننا نؤمن بأن الرشد لا يكون إلا في ظل سيادة القانون، فإننا نُحيل كلّ اتهام إلى القضاء، وكلّ رأي إلى ساحة الحوار، وكلّ خلاف إلى حضن الوطن.

لقد قال جلالة الملك عبد الله الثاني – نصره الله – في إحدى خطاباته الملهمة:
“المسؤولية في هذه المرحلة أن نقف صفًا واحدًا، وأن يكون ولاؤنا جميعًا للأردن، لا للأحزاب ولا للعصبيات ولا للأهواء.”
ونحن اليوم نُعيد التأكيد على هذه الحقيقة الثابتة، بأن الولاء للوطن يسمو فوق كل الانتماءات، وأن الوطن لا يُجزّأ ولا يُحتكر، بل هو للجميع، بحقوقهم وواجباتهم.

وختامًا، فإن الأردنيين، جميعهم، يقفون اليوم خلف الدولة، مؤمنين بأنّ مؤسساتها الدستورية، وفي مقدّمتها القضاء، هي وحدها المرجع، وهي الملاذ الذي لا يخون، وأنّ وحدة الصفّ ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية لا تستقيم بدونها الأوطان.

فلنكن كما أرادنا الملوك الهاشميون: عقلاء في المحن، ثابتين في الأزمات، مستمسكين بالحق، حريصين على الدولة، أوفياء للثوابت