السيوف يكتب: مجلس الأمن في غرفة الإنعاش: هل ماتت الدبلوماسية الأممية؟

دقيقة واحدة ago
السيوف يكتب: مجلس الأمن في غرفة الإنعاش: هل ماتت الدبلوماسية الأممية؟

عندما اجتمع العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتأسيس نظام أممي جديد، كان مجلس الأمن هو التجسيد الأبرز لفكرة الضبط الجماعي للصراعات، وتكريس مبدأ الأمن الجماعي. كان من المفترض أن يكون هذا المجلس الآلية الأكثر فاعلية لحماية السلم والأمن الدوليين، وضمان عدم تكرار الكوارث التي جرّت العالم إلى حافة الفناء. غير أن هذا الكيان الذي شُيّد على أنقاض حربٍ عالمية دامية، يعيش اليوم حالة من التآكل البنيوي، ويعاني من فقر شرعي متفاقم، وتراجع حاد في فاعليته السياسية والدبلوماسية، حتى بات أقرب إلى جهاز بيروقراطي يستهلك نفسه بالبيانات الشكلية، دون أن يمتلك الحد الأدنى من أدوات الردع أو الإنفاذ الفعلي.

لم يعد مجلس الأمن كما أرادته ديباجة ميثاق الأمم المتحدة. لقد تحوّل إلى منصة لتصفية الحسابات الجيوسياسية بين الأعضاء الدائمين، وتفككت وظيفته الأساسية أمام طوفان المصالح الاستراتيجية المتناقضة. فالفيتو، تلك الأداة التي خُلقت لضمان توافق الكبار، باتت اليوم أداة لتعطيل العدالة الدولية، وسلاحاً تكتيكياً لحماية الحلفاء وتحصين الانتهاكات من المساءلة. إن تكرار استخدامه في الملفات الحساسة – كالقضية الفلسطينية، والأزمة السورية، والحرب الروسية الأوكرانية – يبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام الأممي يخضع لمنطق القوة لا منطق القانون، وأن التوازنات الدولية طغت على روح الميثاق الأممي ذاته.

إن جمود المجلس أمام المجازر المستمرة في غزة مثال صارخ على الإفلاس الأخلاقي لمنظومة الأمن الجماعي. ففي ظل التدمير الممنهج، والإبادة الصريحة التي وثّقتها تقارير منظمات إنسانية وحقوقية دولية، فشل المجلس في مجرد إصدار قرار ملزم بوقف إطلاق النار أو حتى بيان إدانة حقيقي، لا لشيء سوى لأن الولايات المتحدة ترى في حماية إسرائيل جزءًا من أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. هذه الواقعة تعري هشاشة الدبلوماسية الأممية، وتفضح زيف الخطاب الأخلاقي الذي تتغنى به القوى الكبرى عند الحديث عن القيم والمبادئ.

لقد تحوّل مجلس الأمن إلى ما يشبه “مسرح الدمى”، حيث تتحرك القرارات وفق أوتار الجيوبوليتيك لا وفق منطق القانون الدولي. وتكاد تختفي فيه استقلالية القرار الجماعي أمام هيمنة الإرادة الفردية للدول الخمس الكبرى. فأزمات كبرى مثل اليمن، ليبيا، السودان، وميانمار، تواجه إما تجاهلاً مريباً أو مواقف رمادية لا ترتقي إلى مستوى التهديدات الفعلية التي تمس الأمن والسلم العالميين. وما يزيد من قتامة المشهد هو عجز المجلس عن مجابهة الفاعلين من غير الدول، وانتشار الفوضى الأمنية العابرة للحدود، وتضخم أدوار الميليشيات المدعومة إقليميًا ودوليًا، في ظل غياب قدرة الأمم المتحدة على فرض قراراتها أو حتى حمايتها من الانتهاك.

الدبلوماسية الأممية، التي يُفترض بها أن تكون الأداة الناعمة لتسوية النزاعات، باتت رهينة المعادلات الصلبة لقوى ما بعد القطبية الواحدة. لقد انتهى عصر الهالة الأخلاقية التي كانت الأمم المتحدة تتوشح بها، ولم يعد خطاب الشرعية الدولية كافيًا لإضفاء غطاء على مجلس فقد مصداقيته في أعين الشعوب، وأصبح عاجزًا عن أداء دوره الميثاقي، لا بفعل نقص الموارد أو ضعف النية، بل بفعل تركيبته البنيوية المشوهة التي تُنتج الفشل الممنهج.

فالدبلوماسية التي تُمارس اليوم تحت مظلة مجلس الأمن ليست سوى تقنيات لإدارة الأزمة لا حلها، ووسائل لإعادة إنتاج الوضع القائم لا تغييره. وهي في جوهرها دبلوماسية انتقائية، تُمارس في ملفات دون أخرى، وتُحركها بوصلة المصالح لا بوصلات المبادئ. فهل يمكن وصف هذه الممارسة الدبلوماسية بأنها ما تزال حيّة؟ أم أننا أمام حالة موت سريري لدبلوماسيةٍ لم تعد تملك من مقومات الحياة سوى الشكل، بينما تآكل المضمون وانهار الجوهر؟

الواقع أن الحاجة اليوم لم تعد إصلاحًا جزئيًا في آلية التصويت أو توسيع عضوية المجلس، بل إلى مراجعة جذرية لوظيفة المجلس نفسه، ودوره ضمن بنية النظام الدولي. فالعالم لم يعد يحتمل دبلوماسية انتقائية، ولا نظامًا أمميًا يمنح شرعية للقتل ويصمت أمام الإبادة. ما لم يتم الاعتراف بأن مجلس الأمن قد فقد شرعيته السياسية والأخلاقية، فإن كل محاولة لإنقاذ الدبلوماسية الأممية ستظل مجرد وهم يُباع تحت يافطة الإصلاح، بينما الحقيقة أن ما نحتاجه هو تفكيك المنظومة القائمة وبناء أخرى أكثر عدالة وتوازناً.

بقلم ابراهيم السيوف