م.مجدي القبالين
بنظرة تتجاوز سطح الأحداث، يمكن القول إن ملف الإخوان المسلمين في الأردن دخل فعليًا مرحلة ما بعد “النهاية السياسية”، وهي نهاية لا ترتبط بحادثة أو توقيف، بل بحصيلة تراكمات بنيوية في سلوك التنظيم، وباستنفاد كل فرص التصحيح التي منحتها له الدولة لعقود طويلة.
اعتقد ان التنظيم بلغ نقطة الإفلاس الاستراتيجي، حيث لم تعد لديه أوراق مشروعة في العمل السياسي، ولا قدرة على إقناع الداخل والخارج بأنه يمثل حالة إصلاحية وطنية خصوصا انه فقد ثقة الدولة على مستوى الامن السياسي.
ومثلما فشل في مصر حين اختزل الدولة في الجماعة، واعتبر مؤسسات الدولة “غنائم سلطة” لا “أدوات بناء وطن”، سقط في الأردن بالخطاب ذاته: التسلل تحت عباءة الدين، واحتكار الحديث باسم فلسطين، والترويج لفكرة “الشرعية البديلة” وهذا مربع محجوز مسبقا للهاشميين ولا يجوز اللعب به او استثماره لصالح حزب او تيار.
في مصر، حين وصل الإخوان إلى الحكم، ظنّوا أن المؤسسة العسكرية ستنصاع، وأن الشارع سيتحول إلى جمهور دائم، لكنهم اصطدموا بجدران الدولة العميقة التي لا تخضع للاحتكار العقائدي، ولا تتسامح مع استبدال الهوية الوطنية بهوية تنظيمية. والنتيجة كانت قطيعة شاملة مع الدولة المصرية انتهت بإقصاء سياسي ومجتمعي تام حتى وصلت للتصفية.
الأردن لم يصل إلى ذات السيناريو الحاد، لكنه يتعامل اليوم مع مقدمات شبيهة، ويظهر أنه تعلّم مبكرًا من التجربة المصرية للاسباب التالية :
1. في الأردن، أعادت الدولة تموضع الإخوان لحجمهم الطبيعي قبل أحداث 7 أكتوبر، لكنهم تعاملوا مع تلك الأحداث كفرصة لا كأزمة، وسعوا إلى استثمار الدم الفلسطيني لتسجيل نقاط سياسية، في تجاوز واضح للثوابت الوطنية الأردنية وللدور التاريخي للقيادة الهاشمية في رعاية القدس وفلسطين ودخلوا المربع المحرم.
2. تبنّوا شعارات التأزيم ووقفوا مع كل من يهاجم بنية الدولة، سواء من خلال الصمت المتواطئ تجاه الهتافات التي تستهدف القيادة والجيش، أو من خلال التحالف الضمني مع كل من يعبث بثوابت الدولة كما فعلوا قبل سنوات بدعمهم خطاب احد النواب الذي اراد ان يعود بالاردن لما قبل الدولة وتبنى خطاب صدامي مروع اوصله للسجن.
3. الأذرع الإعلامية الخارجية للإخوان، وخاصة الممولة من دول معينة، لعبت دورًا تخريبيًا في تشويه صورة الأردن وتقديمه كعدو لفلسطين، وهو خطاب يحمل بذور الفتنة، ويعبّر عن نية مبيتة في ضرب الحاضنة الوطنية من الخارج.
٤. في سلوك يفتقر لأدنى درجات الوعي الاستراتيجي، تورطت جماعة الإخوان المسلمين ومناصريها في استثمار ملف فلسطين والمقاومة بصورة عبثية تسعى فعليًا إلى ترحيل أزمة غزة عسكريًا نحو الداخل الأردني، دون أي تقدير لمخاطر ذلك على الأمن الوطني أو التماسك العسكري أو الاستقرار السياسي. حيث حاولوا دفع الأردن ليكون ساحة صراع بالوكالة، من خلال تغذية خطاب المقاومة غير المنضبط، وخلق صورة موازية تزعم أن الدولة تتقاعس، بينما الجماعة وروافدها هي من تحمل لواء المواجهة والمقاومة. الأخطر من ذلك أنهم سعوا إلى إضعاف رمزية الجيش الأردني في الوعي الشعبي، عبر الترويج لخطاب يجعل حركة حماس تمثل “رمز الشرف القتالي”، في مقابل مؤسسات الدولة التي صوّروها وكأنها متخاذلة أو معطلة. وقد بلغ هذا النهج ذروته في لحظة انكشاف فاضحة، حين سارعت الجماعة إلى تبني عملية إطلاق النار على الحدود الأردنية الفلسطينية، محاولة توظيفها لصالح سردية “دخول الأردن في المعركة”، دون أن تستوعب التداعيات الأمنية والسياسية لمثل هذا الفعل. وسرعان ما سحبت تبنيها للعملية بعد إدراكها حجم الخطأ، لتؤكد من جديد أن تحركات الجماعة لم تعد تستند إلى مشروع وطني أو حسابات واقعية، بل إلى منطق الفوضى والتجريب السياسي على حساب استقرار الدولة وأمنها السيادي.
٥. قيادة التنظيم الحالية فاقدة للشرعية السياسية والأخلاقية، فهي تقود الجماعة نحو المجهول، وتحركها عقلية الانتقام لا عقل الدولة، وتطمح إلى اختراق كل مفاصل السلطة وليس المشاركة ضمن حدود الدستور.
في ضوء ذلك، لم يعد الحديث عن “علاقة تاريخية” بين الإخوان والنظام الاردني ذا معنى سياسي، لأن الدولة اليوم أمام تهديد مباشر لنمطها ومشروعها الوطني. تمامًا كما حدث في مصر، فإن التنظيم تجاوز خطوط التماس مع الدولة، وتمادى في تبنّي ملفات “محجوزة للسيادة”، وعلى رأسها الدين والمقاومة، فحوّل نفسه من مكون سياسي إلى مشروع عقائدي وسيادي مضاد.
ولذلك فإن إعادة منح الإخوان فرصة جديدة، لن تكون خطوة إصلاحية، بل مغامرة وطنية غير محسوبة. فهؤلاء لا يشاركون، بل ينازعون، ولا يساهمون، بل يناورون، وأثبتت التجربة أنهم لا يدخلون إلى مؤسسات الدولة إلا لبنا روافع شعبية لهم فيها على حساب الدولة.
الأردن اليوم أمام لحظة حسم تشبه ما خاضته مصر في 2013، لكن بوعي مبكر وقرار سياسي أكثر ضبطًا. فالدولة الأردنية تدرك أن استمرار وجود تنظيم بمشروع بديل للدولة، وسلوك إعلامي خارجي عدائي، وخطاب داخلي تآمري، لم يعد خطرًا فكريًا فحسب، بل تهديدًا سياديًا يستوجب المعالجة بمنطق “الحفاظ على الدولة أولًا”، لا بمنطق المجاملة السياسية