المعادن الاستراتيجية والنادرة تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية

37 ثانية ago
المعادن الاستراتيجية والنادرة تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية

البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
استكمالاً للجزء الرابع من المقال، سنتحدث عن الولايات المتحدة (أكبر مستهلكي العناصر النادرة)، والتي تنبهت لتوسع الصين في الاستثمارات على الساحة الدولية، وسيطرتها على مدخلات الصناعات الحديثة، فسعت الى تعزيز استثماراتها العالمية، بما فيها قطاع التعدين، كجزء من استراتيجيتها لاستعادة نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي. تشير تقارير مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي (BEA)، بان الاستثمارات المباشرة لأمريكا بلغت حوالي 5.4 تريليون دولار (2023) في أوروبا وكندا وآسيا وغيرها.
تركزت الاستثمارات الامريكية في التركيز على المعادن الاستراتيجية والنادرة، فسارعت للمحادثات مع الكونغو الديمقراطية للحصول على حقوق الاستكشاف فيها (على حساب النفوذ الصيني هناك)، مقابل تقديم الدعم لحمايتها من الجماعات المسلحة.
وتعمل جاهدة للحصول على غرينلاند بسبب وفرة احتياطاتها من المعادن النادرة ولموقعها الجيواستراتيجي الذي يمكنها من تعزيز نفوذها في القارة القطبية الشمالية لتضمن السيطرة على موارد العالم في المستقبل (في ظل الأوضاع الدولية، من المحتمل انها ستحصل عليها او على الأقل ستزيد من نفوذها في غرينلاند بشكل كبير).
تسعى امريكا لتعزيز وجودها في الحصول على معادن أوكرانيا، كجزء من استراتيجيتها لتحقيق مصادر المعادن الضرورية لأمنها القومي (وستحصل عليها اجلاً ام عاجلاً).
تعمل أمريكا على تعميق علاقاتها مع الهند في القطاعات المختلفة (لمحاصرة النفوذ الصيني في شرق اسيا وتعزيز النفوذ الهندي (على الرغم من ان الصين والهند أعضاء في مجموعة البريكس)، وفجاءة تجد الهند نفسها امام فرصة ممتازة قد لا تتكرر (مع وجود صعوبة للمحافظة على التبادلات التجارية مع الصين، تبلغ 136 مليار دولار لعام 2023، وتعتمد الكثير من الشركات الهندية على سلاسل الامداد الهندية لصناعاتها)، يضاف الى ذلك المباحثات الامريكية المكثفة مع فيتنام، الغنية في المعادن النادرة للوصول الى اتفاق.
أصبحت أمريكا مهتمة بالتعاون مع روسيا (بعد العرض الروسي للاستثمار في معادنها وهي الغنية فيها، وهل العرض لمعادن أراضي الدونباس الأوكرانية ام كافة الأراضي الروسية؟)، بهدف اضعاف العلاقات الروسية الصينية والتوسع في السوق الروسي كبديل عن الصيني (روسيا تسعى لإضعاف العلاقة الامريكية الأوروبية)
ان استراتيجية أمريكا بالعودة الى المنافسة، جاء بقرار سياسي قوي، بسبب نقص الامدادات للمواد الخام الضرورية لصناعاتها التكنولوجية (اكتشفت ضعفها البنيوي في سلاسل الامداد)، المتفوقة فيها، فبادرت لتقديم دعم مالي غير مسبوق (مليارات الدولارات من قانون CHIPS & Science Act) لتطوير مناجمها في كاليفورنيا، والاستثمار في نتائج ابحاث جامعة تكساس التي بينت أن رماد الفحم في امريكا يحتوي على 11 مليون طن من المعادن النادرة، وانشاء مصفاة لاستخراج وفصل المعادن النادرة (تحتاج الى بضع سنوات لإنجازها) والابتكار في إعادة تدوير النفايات الإلكترونية.
أمريكا، اتخذت قراراً بالمباشرة في استخراج المعادن من قاع المحيط (لتأمين مصادر موثوقة)، رغم التحديات الفنية، والقانونية والبيئية، والجيوسياسية، معتمدة على الدراسات المتوفرة من دائرة المساحة الجيولوجية والدراسات الجيولوجية والجيوفيزيائية الصادرة عن معهد ودز هول للمحيطات (Woods Hole Oceanographic Institution، تشرفت للعمل فيه كحاصل على منحة الفولبرايت 2000-2001، حيث قمت بدراسة حوض البحر الميت والقباب الملحية)، والتي تتشير الى ان ثروات المحيط تفوق بشكل كبير الثروات الموجودة في اليابسة، وسيكون التركيز على معادن النيكل والكوبالت والمنغنيز والمتواجدة على شكل عقد معدنية (Poly-metallic Nodules) في المنطقة (Clarion-Clipperton) الواقعة بين هاواي والمكسيك وكذلك في المحيط الهندي والهادي (على الرغم من عدم وجود ترخيص لديها من المنظمات الدولية (الصين سبق وان حصلت على 5 تراخيص للقيام بعمليات الاستكشاف البحري).
على الرغم من كل الإجراءات الامريكية، الا انها تواجه مشكلة في البطء بتنفيذ المشاريع، والاعتماد على الصين في عملية تكرير المعادن النادرة حتى تاريخه، وبعض سلاسل الامداد الحرجة، الا انها على المدى المتوسط والبعيد (خلال عقدين من الزمن)، لديها فرصة لاستعادة التوازن (إذا نجحت في تطوير سلسلة إمداد مستقلة من خلال بناء التحالفات) وتنويع مصادر الاستيراد من أستراليا، وماليزيا، وفيتنام وغيرها، وتسريع تطوير تكنولوجيا تعدينية توازي الصينية.
كما ان أمريكا باشرت في استثمار 5 مليار دولار لبناء سلاسل امداد مستقلة لتامين المعادن النادرة (عن طريق المحافظة على تحالفاتها مع أستراليا، كندا، والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا وغيرها من الدول) وفي اعمال البحث والتطوير، بهدف تحقيق استدامة سلاسل الامداد المعدنية لصناعاتها المتفوقة بها على بقية الدول.
دول الاتحاد الأوروبي، والتي تراجع دورها الاستراتيجي نسبياً، بسبب الازمات الداخلية لها والإقليمية، واعتمادها لسنوات للحصول على احتياجاتها من موارد الطاقة والمعادن، على روسيا وأمريكا والصين (الدول المحورية)، وضعت استراتيجية للحصول على المعادن بخطة استثمارية بـ 6 مليارات يورو لدعم الاستخراج المحلي والتكرير ضمن مبادرة “Raw Materials Alliance” والاستثمار في عمليات التدوير والطاقة المتجددة، ومنافسة أمريكا على ثروات أوكرانيا.
ان نقص الموارد اللازمة للإنتاج الصناعي في دول الاتحاد الأوروبي، جعلها تجد صعوبة بالغة في خلق حالة مقبولة من التوازن مع النفوذ الأمريكي ومواجهة النفوذ الصيني والروسي المتصاعد، وأصبحت تشعر بان هناك تهديد مباشر لأمنها، الامر الذي جعل دورها أقل تأثيراً في معادلات القوة الجيواستراتيجية العالمية في الوقت الحالي، مما يفرض عليها إعادة ترتيب بيتها الداخلي لضمان امنها والبقاء على خارطة المنافسة الجيواستراتيجية الدولية، كما كانت قبل عقود.
اليابان، تقدر احتياجاتها من المعادن النادرة بحوالي 40 ألف طن سنوياً (تستورد 90℅ من الصين)، وكوريا الجنوبية، تستورد حوالي 30 ألف طن (80% منها من الصين)، وتايوان، تحتاج حوالي 15 ألف طن سنويا (تأتي من الصين)، الا ان هذه الدول ومنذ أكثر من عقد من الزمن توجهت الى الهند وأستراليا وفيتنام، وتوسعت في اعمال إعادة تدوير النفايات الاليكترونية. كما ان اليابان وكوريا الجنوبية اعدتا استراتيجية لاستثمار 3 مليار دولار في دول افريقيا وامريكا اللاتينية لمحاولة ضمان مصادر مستدامة للمعادن الاستراتيجية والنادرة بدلاً من المصادر الصينية (الا انها ستبقى تعتمد على سلاسل الامداد الخارجية).
لن نتحدث عن السيلكون عالي النقاوة (يستخدم في صناعة أشباه الموصلات، والطاقة المتجددة والالياف الزجاجية وغيرها الكثير) والمستخرج من الصين وامريكا وروسيا والبرازيل، بشكل رئيسي.
ان الصراع على المعادن النادرة أصبح أحد أهم محاور التنافس الجيوسياسي بين الدول، وخاصة امريكا والصين، ومع انطلاق شرارة الحرب الباردة الجديدة، التي دفعت الصين لفرض قيوداً على تصدير 7 من معادنها النادرة (مما سيشكل ازمة كبيرة للشركات الامريكية المصنعة للطائرات والرقائق والتوربينات والمغناطيسات والأجهزة الطبية والطاقة المتجددة وغيرها، ما لم يكن لديها مخزون يكفيها للسنوات القادمة) والتي تعد العمود الفقري لهذه الصناعات.
ان الصراع على المعادن، لم يعد مجرد سباق اقتصادي، بل معركة حقيقة للفوز بالسيطرة الصناعية والتكنولوجية للعقود القادمة، وهذا يعكس تحولًا جيواستراتيجياً يمزج ما بين الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة، ومن يمتلك اليد العليا في هذا السباق، سيمتلك مفاتيح القوة للعقود المقبلة، ويصبح لاعب رئيسياً في التحولات الحاصلة في موازين القوى الجيوسياسية هذا العقد، والتي ستعيد هندسة الجيواستراتيجية العالمية والنظام العالمي القادم.
كنتيجة للصراع على المعادن والحرب التجارية، تبرز التسأولات، هل من الممكن ان نرى ان بعض الدول ستخفق في المحافظة على وجودها كقوى عالمية مهيمنة او كدول؟ اوهل من الممكن ان نرى تبدل في مواقع بعض الدول الارتكازية في العالم؟، ام اننا سنرى نتائج ما اشار اليه دايموند من اسباب تؤدي الى إخفاق الحضارات وانهيار الأمم، ومنها وجود جيران عدائيين (احد نقاط قوة أمريكا، منذ البداية، لم يكن لديها جيران اقويا يهددون وجودها، وهل ستبقى كندا تنظر اليها كحليف موثوق) وفقدان الشركاء التجاريين (هذا ما يخيف العالم اليوم بسبب الحمائية التجارية)، والاضرار بالنظام البيئي (التعدين في قاع البحار والقارة القطبية الشمالية وغيرها) والتغيرات المناخية وانهيار المنظومة الثقافية (عدم قدرة المجتمع على التفاعل مع المشاكل المحيطة به) وفقدان القيادة. ام اننا سنرى إجابة على اسئلة غاردلز، حيث تسأل، هل من الممكن ان تحقق الدول اية طفرة قبل انهيارها؟ أو هل يتطلب الأمر وجود أزمة لكي يتحرك العقل العالمي لاحتوائها (ونضيف هل من الممكن ان تحتكم الدول للمنظمات الدولية، كمنظمة التجارة العالمية لرسم مسار جديد للعمل الدولي المستقبلي وتشكيل جبهة مشتركة للتعاون لمواجهة التحديات، التي تهدد الاقتصاد العالمي والبشرية) او هل من الممكن ان نرى تحالفات تقنية جديدة اخرى (دول كبرى مع دول نامية) تعمل على نقل التكنولوجيا المتطورة مقابل المعادن النادرة، وانشاء صندوق عالمي لضمان سلامة سلاسل التوريد العالمية.
ان التخوف الحقيقي من ان يودي الصراع على المعادن النادرة الى تقسيم العالم، الى عالم يحتاجها وعالم يسيطر عليها تقوده الصين، التي بدأت تتحرك بسرعة في دول شرق اسيا وعلى المستوى الرئاسي، وفي حال نجحت الصين في تعزيز تحالفها مع روسيا وفيتنام ودول شرق اسيا والمحافظة على نفوذها في افريقيا ستكون أمريكا في وضع صعب الى حد ما، ما لم تستخدم أمريكا وحلفائها الضغط الكافي بعدم السماح لدول شرق اسيا او الاتحاد الأوروبي ان تبقى محايدة، وانه ليس امامها الا المتبقي من ال 90 يوماً (التي حددها الرئيس ترامب) لتحديد موقفها، بما فيها بعض الدول العربية، وبذلك سيبقى العالم يحبس أنفاسه حتى تتضح له معالم النظام العالمي الجديد.
مؤكدين، كما هي زحزحة القارات (Plate Tectonics) مستمرة في الحركة وتعيد تشكيل الأرض، فان المواقع الجيوسياسية للدول ليست ثابتة وتتبدل، وان الامن الاستراتيجي للدول يعتبر اهم من كل اعتبار لمن يستطيع المحافظة علية في هذه المرحلة الحرجة لمستقبل الشرية.