الوطن ليس حِكرًا لأحد

دقيقة واحدة ago
الوطن ليس حِكرًا لأحد

بقلم : هشام بن ثبيت العمرو

في زمن تتكاثف فيه التحديات، ويعلو صوت الفتن، وتتطلب المرحلة صدق الكلمة ونبل المقصد، خرجت على الناس في لقاءٍ إعلامي تصريحاتٌ لا تخفى دلالاتها، تنطوي على اتهامات مستترة وأخرى صريحة، وتشكك في عدالة الدولة ومؤسساتها، وتُلقي باللائمة على من يُفترض أن تُشدّ بهم الأواصر لا أن تُقطع على ألسنتهم.

ومع أن في النقد متسعًا، إذا كان منضبطًا بصدق النية وسلامة القصد، إلا أن ما قيل جاوز حدّ الرأي الحر، إلى درك التشويش على الحقيقة، وامتهان الحكمة، ومحاولة توظيف الوطنية ستارًا للتهرب من المساءلة، والالتفاف على سلطان القانون.

لقد قيل – تصريحًا لا تلميحًا – إن المساس بحركةٍ سياسية بعينها هو مساسٌ بالوطن، وإن من يستقوي عليها يستقوي على البلاد.
وهذا قولٌ بالغ الخطورة، لأنه يُصور جهة سياسية واحدة وكأنها تختزل الوطن، أو أنها معيار الانتماء وأصل الولاء.
وهذا خلطٌ عظيم، فإن الوطن لا يحتمل حصرًا ولا يقبل اختزالاً.

قال الله عزّ وجل:

“ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون” [البقرة: 42]

وليعلم من يُطلق مثل هذه التصريحات أن الأردن وطنٌ لجميع أبنائه، لا تحكمه جهة، ولا تحتكره فئة، ولا تُقاس محبته بميولٍ سياسية أو شعارات حزبية. الوطن أقدس من أن يُستخدم في نزاعٍ على سلطة أو خلافٍ في الرأي.

وقد جاء في الحديث الشريف:

“من ولي من أمر المسلمين شيئًا، فأراد به غير وجه الحق، حرم الله عليه الجنة” [رواه البخاري]
فالحق حقٌّ، ولو خالف الهوى، والعدل لا يُراعى فيه نسبٌ ولا حزبٌ ولا راية.

ثم سُجّل على الدولة أنها “تشيطن الشارع”، وكأنها تخشى صوت الشعب أو ترفض التعبير، والحقيقة أن مؤسسات الدولة فرّقت بحكمة بين من يعبر عن رأيه في كنف القانون، وبين من يُحرّض على الفوضى، أو يتخذ من الشعارات ذريعةً للتهديد والتخريب.
الشارع الأردني ليس خصمًا للدولة، بل هو عمادها، ولا تُشيطنه الدولة، لكنها تحفظ أمنه وتصونه ممن أراد أن يعبث به.

وقيل أيضًا إن “الإعلام شُحن باتجاه واحد”، وإن الحكومة “أخرجت المشهد إخراجًا سيئًا”، وإن في هذا دلالة على فبركة أو تدبير.
وهذا افتراء صريح على الحقيقة. إن الإعلام لم يفعل سوى أن نقل رواية الدولة كما بيّنتها أجهزتها، وأطلع الناس على نتائج تحقيقات موثّقة لا مزاعم مرتجلة. أما “الإخراج”، فلا يكون في ساحات القضاء، بل في مشاهد التمثيل، ونحن في دولة مؤسسات لا خشبة مسرح.

ثم جاءت عبارات تحريضية لا تخفى مراميها، تتهم الحكومة بأنها تؤلّب الشارع، وكأن من يُحذر من الخطر يُصبح هو الخطر، ومن يُنذر من فتنة يُتهم بإشعالها.
لقد تجاهل قائلها أن من اعتلى المنابر فألهب الجماهير بخطابه، ومن لوّح بعبارات الغضب، ومن ربط الدولة بالمؤامرة، هم أول من أوقد جذوة التحريض.

وما كان أشد إيلامًا، هو الطعن في توقيت الإجراءات، واتهام المؤسسات الأمنية بالتقصير أو التواطؤ منذ عام 2021، في لغة تنطوي على استعلاء على أجهزة الدولة، وتجهيل لطبيعة عملها.
فمن قال إن الأمن يُفصح عن عمله للعامة؟ أو إن كل قضية تُعرض على الملأ؟!
وقد قال جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم:

“ليس هناك أحد فوق القانون، والعدالة هي أساس الحكم الرشيد، وهي ركن في نهج الدولة منذ نشأتها.”

ثم أُثيرت قضية الأحكام القضائية، ولا سيما أحكام الإعدام، فقيل إنها “قد تُحدث فتنة، أو تُستغل من العدو الصهيوني”، وكأن العدل يُعطّل خشية العدو، وكأن القضاء الأردني يُصدر أحكامه لأغراض سياسية لا بميزان الحق والعدل.

قال الله تعالى:

“إن الله يأمر بالعدل والإحسان” [النحل: 90]
وقال أيضًا:
“وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” [النساء: 58]

فما العدل إن عُطِّل خوفًا من المتربصين؟ وما الهيبة إن فُقدت أمام من يهدد باستخدام الشارع أداة ضغط؟

وقد صدع المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحسين بن طلال بكلمة باقية حين قال:

“لا مكان في الأردن لمن يحاول أن يتخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايات شخصية أو سياسية، فالأردن دولة القانون، ودولة العدالة والمساواة.”

في الختام…
إن الوطن لا يُبنى بالخطابة، ولا يُحمى بالشعارات، ولا يُقاد من خلف الميكروفونات.
إنه أمانة، وسلطانه القانون، ودرعه الأمن، وحكمه العقل.

من أحبّ الأردن فليصنه بصدق، لا بادعاء.
وليُسهم في رفعة شأنه ببصيرة، لا بغوغائية.
وليحترم قضاؤه، ومؤسساته، وقادته، فإن الأردن ليس جدارًا للتسلق، ولا ساحةً للتنافس الحزبي على حساب سلامة الوطن وأمن شعبه.

قال الله تعالى:

“فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” [الرعد: 17]
وما ينفع الناس، هو الكلمة الصادقة، الموقف المسؤول، والانتماء الحق.

والله من وراء القصد