كتب زهدي جانبيك : في حارتنا القديمة، كانت مياه السيل تجري صيفا وشتاء على حد بستاننا ومطحنتنا، وكنا نشرب المياه عذبة من السيل مباشرة، كنا نضع طرف الشماغ او قطعة شاش على سطح المياه ونشرب حتى لا يدخل فرخ ابو ذنيبة الى افواهنا، (احيانا كنا نستخدم محرمة القماش التي كنا نحملها بجيوبنا وتخضع للتفتيش اليومي في المدرسة مع التفتيش على طول الأظافر وطول الشعر)، وكانت خيوط بيوض الضفادع تجري لعشرات الامتار مع المياه على ضفاف السيل …
عيون المياه واحدة على بعد 50 مترا شمال شرق البيت، والثانية على بعد 100 متر شمال غرب البيت … ومقابل البوابة مباشرة موقف الخيل والبغال والحمير والجمال التي تحمل الحبوب الى المطحنة وتاخذها طحينا و/أو اعلافا مجروشة …
وبنفس الوقت ملعبا وميدان فروسية لنا، ولكن اسوأ لحظاتنا فيه كانت عندما كنا نحاول ان ننزع شعرات قليلة من ذيل الخيل لنستعملها اوتارا موسيقية لأداة نصنعها يدويا نسميها عود ، وهي لا عود ولا ربابة ولا غيتار.
لكن ثمن هذه الشعرات القليلة كان رفسة من الخيل غالبا ما تصيبنا في الصدر او الكتف الأيمن… مؤلمة لكنها ليست قاسية، وكأن الخيل كانت ترأف بطفولتنا، فتتلطف معنا .
كل هذا كان شمال البيت وشمال شرقه، اما شرق البيت، فكانت، تلة صغيره تعود ملكيتها الى عبدالكريم توفيق أبدة الذي تبرع بها لبناء مسجد الشركس على قمتها …
شمال البيت كانت مطحنتنا الجديدة نشترك بها مع عمي طاهر ولنا النصف ولعمي أبو خيري نصفها الثاني … اماجنوب بيتنا فكانت مطحنتنا القديمة نشترك بها مع عمي طاهر وعبدالكريم توفيق أبدة وغيرنا …
المهم، جنوبا الى الاعلى، وعلى زاوية الشارع، تماما كان منزل ابو شبلي ودكان كامل الشويخ (الصباغ)، ومقابله، حوش كبير يملكه الحاج الياس (ابو غازي)، وتسكنه عائلات منها ابو صالح “عليق”… هناك كان ملعب الحارة الرسمي لمباريات الحارات …
الشارع الفاصل بين بيت عمتي ام شبلي وحوش الحاج الياس كان ايضا ملعب الحارة اليومي… وهنا المشكلة.
هنا في هذا الشارع كنا نلعب كل انواع الالعاب دون ان ينبس احدنا بلفظ واحد مسيء … ما في مسبات من اي نوع إطلاقا… لاننا كنا على قولة طارق ابن زياد، دار ابو شبلي الى يميننا ودار ابو صالح عليق ودار غور الى يسارنا والمسجد من خلفنا ، وان سقطت طابة في اي من هذه البيوت يتم مصادرتها فورا …وان صدر عنا صراخ يتم كحشنا فورا لاننا تسببنا بايقاظهم من القيلولة … وتقع على رؤوسنا مصيبة اذا مر ابو جودت إمام الجامع وهو متوجه من بيته في الشارع إلى المسجد …
وتكون الطامة الكبرى اذا خرج مدير المدرسة زكريا النمر من بيته في أعلى الشارع شرقا نازلا الى السوق… عندها يتوقف اللعب فورا وننطلق كل الى بيته وكأن مجرد وجودنا في الشارع هو بحد ذاته جريمة ومصيبه… طبعا اللعب كان يتوقف اذا مر كبير في الشارع حتى يخرج من احد طرفيه …
في هذا المثلث ما بين الأهل والأسرة من جهة …والمسجد وإمامه من جهة ثانية … ومدير المدرسة من الجهة الثالثة … في هذا المثلث كانت تتم تربيتنا في البيت والمسجد والمدرسة والشارع بين الأهل…
قبل الغروب كانت الحراسات تنتشر في ابراج المراقبة: عند مدخل المطحنة، وامام باب دكانة سلامة الياس الدبابنة كان يجلس ابي ومعه ابو سلامة ومن ينضم اليهما … مقابل زاوية المسجد الشمالية الشرقية كان يجلس الحاج قاسم ابو رشاد وينضم اليه القادمون الى المسجد من الشمال…في الزاوية الشرقية الجنوبية كان يجلس ابو منصور ومن ينضم اليه من القادمين الى المسجد من الشرق والجنوب… وفي الزاوية الجنوبية الغربية كان يجلس ابو شبلي ومن ينضم اليه من القادمين الى المسجد … هذه المواقع الاستراتيجية المحيطة بمركز البلد كنا نتعرض للتوقيف والسؤال والتشغيل فيها، اقل كلمة كانت: روح عالبيت قبل ما تغيب الشمس او وين رايح، او لا تتأخر …الخ.
وأحيانا، كانوا يمازحوننا، فابو سلامة مثلا كان يدخن الهيشي بغليون، وفي لحظة ملل او رواق، كان يناديني بحضور ابي: ليش متأخر يا ولد؟ اقول: هيني مروح. يجيب: تعال جاي. اركض باتجاهه بنفس مقطوع، اقعد هون، فأجلس امامه ليأخذ نفسا عميقا من غليون الهيشي وينفخه في شعري ويقول لأنك تأخرت راسك مولعة فيه النار والدخنة طالعة من شعرك، اركض على الدار اطفيه، فأركض.
وهنا بالضبط كان يتم الضبط والدفاع الاجتماعي …
كان الجميع اصحاب حق ومصلحة في التدخل بنا نصحا، وتأديبا، وتهذيبا، وضبطا، ورفشا بالبطون، وصفعا، وجلدا …
هنا كانت تتم التربية التي فقدناها اليوم …