كتب الدكتور محمد نهار الهواوشة :
في بلد يفترض أن يكون التعليم فيه ركيزة أساسية لبناء المجتمع، تتحول فيه العديد من المدارس الخاصة إلى ساحة استغلال بشع لمعلمي ومعلمات هذا الوطن. ما يحدث داخل هذه المؤسسات يرقى إلى أن يكون جريمة أخلاقية واجتماعية واقتصادية بحق من يفترض أنهم صُناع الأجيال.
عقود الظل: إهانة للكرامة الإنسانية
كيف يمكن قبول وجود نظام مزدوج للعقود؟ عقد يُظهر للجهات الرسمية ويُصور أن راتب المعلم أو المعلمة هو الحد الأدنى للأجور السابق (260 دينارًا)، بينما العقد الآخر، “المخفي”، يُجبرهم على استلام راتب أقل بكثير (150 أو 170 أو 190 دينارًا). هذه الممارسة ليست فقط خداعاً للقانون بل انتهاكاً صارخاً لكرامة المعلم. والأسوأ أن المعلم يُجبر على إعادة الفارق بين ما يستلمه من البنك وبين الراتب “الحقيقي” الذي تقرره الإدارة من تحت الطاولة.
الخوف من الشكوى: واقع مرير
عندما يُطلب من المعلمين والمعلمات تقديم شكوى، تكون الإجابة غالباً: “سنخسر وظائفنا وهناك من يقبل العمل بهذا الاستعباد بدلًا منا”. هذا الوضع يكشف هشاشة سوق العمل في قطاع التعليم الخاص، حيث يُترك المعلم بلا خيارات سوى القبول أو البطالة.
وزارة التربية والتعليم: غياب للدور والمساءلة
وزارة التربية والتعليم التي يُفترض أن تكون حامياً للمعلمين، تبدو وكأنها تضع رأسها في الرمال. لا تفتح تحقيقات جادة ولا تتابع تلك المدارس التي تنتهك حقوق موظفيها. أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ لماذا لا يتم إرسال لجان تحقق دورية لضمان التزام المدارس بالقوانين؟
الحد الأدنى للأجور: غياب العدالة في التنفيذ
ورغم رفع الحد الأدنى للأجور مؤخراً، إلا أن العديد من المدارس الخاصة لا تزال تعمل على أساس الحد الأدنى السابق (260 ديناراً)، بحجة أن عقود المعلمين والمعلمات تم توقيعها في شهر أغسطس الماضي قبل دخول الحد الأدنى الجديد حيز التنفيذ. هذا التحايل القانوني المزعوم يفاقم الأزمة ويؤكد أن القضية ليست فقط في العقود، بل في غياب إرادة حقيقية لإصلاح هذا القطاع ومعاقبة المستغلين.
كيف تتوقعون جودة التعليم في ظل هذا الاستغلال؟
كيف لنا أن نتوقع جودة في التعليم إذا كان راتب المعلم أو المعلمة هو الحد الأدنى للأجور الذي لا يكفي لشخص أعزب لتغطية احتياجاته الأساسية لمدة عشرة أيام؟ فكيف بالمعلم المتزوج الذي يعيل أسرة كاملة؟ إن الضغط الاقتصادي الذي يُمارس على هؤلاء المعلمين لا يؤثر فقط على حياتهم الشخصية بل يمتد ليؤثر على قدرتهم على أداء مهامهم التعليمية بكفاءة وإبداع. التعليم ليس مجرد وظيفة، بل هو رسالة تتطلب بيئة آمنة ومستقرة ليتمكن المعلم من تقديم الأفضل.
الاستعباد الصيفي: قمة الاستغلال
هل يُعقل أن تبدأ عقود المعلمين قبل أسبوع واحد فقط من بدء العام الدراسي وتنتهي مع نهاية شهر ٦ ؟ هل يُعقل أن يُحرموا من راتب العطلة الصيفية؟ بل ويصل الاستغلال إلى إجبار المعلمات على تأخير الحمل إلى أشهر الصيف لتوفير أجور إجازة الأمومة! أي عبث وأي انعدام للإنسانية هذا؟
المسؤولية تبدأ من القمة
لا يمكن أن نبرئ أحدًا من المسؤولية:
1. وزير التربية والتعليم الذي لا يحرك ساكناً تجاه هذا الواقع المأساوي.
2. أصحاب المدارس الخاصة الذين لا يرون في المعلمين سوى أدوات للربح.
3. الحكومة ورئيس الوزراء الذين يغضون الطرف عن استغلال ممنهج بحق آلاف المواطنين والمواطنات.
المطالبة بمحاسبة صارمة
لا بد من محاسبة كل مسؤول ومتورط في هذا الاستغلال:
فرض رقابة صارمة على المدارس الخاصة ومراجعة عقود المعلمين بشكل دوري.
تغليظ العقوبات على المدارس المخالفة وإغلاقها إن لزم الأمر.
إنشاء نظام حماية للمعلمين والمعلمات يضمن لهم حقوقهم كاملة دون تهديد بالفصل.
توفير بدائل حقيقية عبر التوسع في التعليم الحكومي وخلق بيئة عمل عادلة.
إن ما يحدث هو استعباد جديد بثوب حديث، ويجب أن يتوقف فوراً. نحن بحاجة إلى موقف شعبي ورسمي حازم يضع حداً لهذا الظلم، ويعيد للمعلم مكانته واحترامه. المعلم ليس سلعة تُباع وتُشترى، بل هو ركيزة لبناء المجتمع، وكرامته هي كرامة الوطن