وطنا اليوم_بقلم : إبراهيم السيوف
عندما اجتمع الاستعمار البريطاني والفرنسي في ظلمة الحرب العالمية الأولى لصياغة اتفاقية سايكس-بيكو، لم يكن الهدف تقسيم أراضٍ شاسعة فقط، بل تجزئة روح أمة بأكملها وتشتيت شعوبها في كيانات مصطنعة تعيش على هامش التاريخ. واليوم، مع ما يُسمى “صفقة القرن”، يُعاد إحياء هذا المخطط بوجوه مختلفة وأدوات أشد فتكًا في محاولة لتصفية ما تبقى من الهوية العربية والإسلامية للمنطقة واستبدالها بخرائط جديدة تُرسم بأيدٍ أجنبية.
عام 1916، رسمت سايكس-بيكو الحدود بالدم، حيث صُنعت دول بلا سيادة وشُيدت أنظمة على أنقاض حلم عربي بوحدة تُعيد المجد الضائع. لقد كان الشرق الأوسط ضحية مؤامرة استعمارية خططت لجعله حقل ألغام دائم الانفجار تُشعل نيرانه كلما اقتضت الحاجة. الأردن، بفضل حكمته الهاشمية ووعيه التاريخي، كان من أوائل الدول التي أدركت حجم المؤامرة، ورغم قلة الموارد وضيق المساحة استطاع الأردن أن يثبت للعالم أنه دولة تنبض بالسيادة وتدافع بشراسة عن ثوابتها في مواجهة خريطة ملغومة استهدفت كل مقومات البقاء.
تأتي صفقة القرن كنسخة مطورة من سايكس-بيكو ولكن بوجه مكشوف ومضمون أكثر خطورة. الصفقة ليست مجرد محاولة لفرض حلول تسووية للقضية الفلسطينية، بل هي مشروع استعماري جديد يسعى لإلغاء الهوية الفلسطينية وتحويل الشعب الفلسطيني إلى قضية منسية داخل معازل اقتصادية وبانتوستانات سياسية. الأردن، الذي وقف دائمًا سدًا منيعًا في وجه هذه المخططات، يُواجه اليوم ضغوطًا غير مسبوقة لتغيير مواقفه الثابتة تجاه القدس والقضية الفلسطينية. المخطط واضح: تطويق الأردن سياسيًا واقتصاديًا لإجباره على قبول خريطة جديدة تضمن بقاء الاحتلال الإسرائيلي وتفكيك الثوابت القومية.
بينما انحنت بعض الأنظمة العربية أمام إغراءات المال والضغط الدولي، بقي الأردن، بقيادته الهاشمية، ثابتًا على موقفه التاريخي تجاه القضية الفلسطينية. الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس ليست مجرد مسؤولية تاريخية، بل هي واجب قومي وديني يحمل الأردن عبئه بشرف رغم كل الضغوط والمساومات. لقد أرسل الأردن، بقيادة الملك عبدالله الثاني، رسالة واضحة للعالم: “لن تمر أي صفقة على حساب الحق الفلسطيني أو السيادة الأردنية”. هذا الموقف يُثبت أن الأردن لا يدافع فقط عن نفسه، بل عن شرف الأمة بأكملها وعن إرث هاشمي عريق لم يتوانَ يومًا عن خدمة قضايا الأمة.
ما بين سايكس-بيكو وصفقة القرن، تتضح الفلسفة الاستعمارية المستمرة: تقسيم المنطقة لإضعافها وإثارة الصراعات لضمان استنزافها. الفارق الوحيد أن الماضي كان يُدار بسرية، بينما اليوم تُعرض المؤامرات في العلن وسط خنوع البعض وتواطؤ آخرين. في وقت تتهاوى فيه مواقف بعض الأنظمة العربية، يظل الأردن بقيادته الهاشمية الدرع الحامي لقيم العروبة. هذا الموقف ليس مجرد خطاب سياسي، بل هو واقع يومي يعيشه الأردنيون الذين يدركون أن بلدهم، رغم صغر حجمه، يحمل عبء الدفاع عن أمة بأكملها.
بينما تواصل القوى الكبرى مساعيها لفرض خرائط جديدة، يظل الشرق الأوسط شاهدًا على صمود الشعوب. الأردن، بحكمة قيادته ووعي شعبه، يُثبت للعالم أن إرادة الشعوب الحرة أقوى من أي مخطط استعماري. صفقة القرن، كسايكس-بيكو من قبلها، ستسقط لأنها تتجاهل الحقيقة البسيطة: الأمم لا تُبنى بالخرائط، بل بإرادة شعوبها. والأردن، الذي ظل شامخًا في وجه العواصف، سيظل الحصن الأخير الذي يُفشل مخططات التقسيم ويعيد للمنطقة مجدها المفقود.