د. محمد عبد الله القواسمة
ذهب إلى البنك ليودع المال، الذي تجمع لديه من الشركة التي يديرها. سحب بطاقة انتظار من الجهاز الإلكتروني المنتصب على مدخل البنك، وجلس في المقعد الأمامي ينتظر المناداة على الرقم الذي يحمله. كان ثلاثة من العاملين يقومون بأعمال الإيداع والصرف، سيدة ربما في الأربعين من العمر، وفتاة في العشرين أو أكثر بقليل وفتى بالثلاثين.
لفت انتباهه الفتاة في الشباك الأوسط. وكأن الوسط دائمًا هو الأفضل، بل والأجمل. جسمها في قوام آلهة الإغريق، شعرها الأسود منسدل على كتفيها وظهرها، عيناها فيهما بريق ناعس، شفتاها نديتان دون طلاء، وخداها مصقولان على قالب من الشفق أو النسيم. لا يظن حسب خبرته النحيلة في النساء أنها تتعامل مع عالم المكياج والموضة. تمنى لو أنه رزق بأخت مثلها لكان أسعد إنسان على وجه الأرض. لماذا توقف والداه عن الإنجاب بعد مجيئه بين ثلاثة إخوة؟
غرق في النظر إلى الفتاة، وراح يتابع نظراتها وحركاتها ولفتاتها، وتمنى لو أنه مكان ذلك الفتى الذي بجانبها. بدا تارة كأنه عابد يتأمل ملكوت الخالق، وتارة مثل فلاح تنزلت على أرضه رحمة السماء بعد جفاف شديد، وتارة أخرى كأب فوجئ برؤية ابنه المفقود.
اقترب موعد المناداة على رقمه. ارتجف عندما فكر في مغادرة المكان، وفقدان المشهد الذي أمامه. نظر إلى الرجل الذي بجانبه، وكان يشكو من طول الانتظار. عرض أن يبادله بطاقته، وافقه في الحال، وشكره على معروفه. تابع النظر إلى الفتاة التي لا يدري من أي نور صنعت، ولا كيف انبثقت في المكان، وهل عرفت مثلها المدن القديمة في أثينا وروما وغرناطة؟ فحص أفكاره بخشوع وهدوء. هل جن بهذه الفتاة؟
لا بد أن ينتهي إليه الدور. كان نصيبه التوجه نحو الشباك الذي تعمل فيه. تقدم نحوها. وقف مشدوهًا.» يا سيد تفضل» أيقن أن هذا الصوت سمعه في أحد أحلامه، وهو على ضفة نهر. اضطرب لسانه. كررت قولها:» يا سيد تفضل» أريد أن أودع هذا المبلغ» ناولها النقود بيد مرتعشة. لامست يده يدها. أسف في نفسه. وضعت الأوراق النقدية في ماكينة العد. همست:» ألف دينار» أعلمها برقم حسابه. استلم قسيمة الإيداع وخرج، وهو يلتفت إليها بين خطوة وأخرى.
لم تغب صورتها عن عينيه وعقله. كيف لم يرها طوال تلك السنين، وكان يمر دائمًا من هذا المكان؟ لكن أول مرة يأتي بنفسه إلى البنك. كان يوكل موظفًا من الشركة لإيداع النقود وسحبها. سيظل من اليوم يأتي البنك ليشاهد تلك الفتاة التي لامست عقله وروحه. عجب من نفسه أنه لم يسأل عنها، أو يصارحها بحبه، أو يفكر فيها كما الفتيات اللائي أعجب بهن في صباه.
التقى بوالديه عند المساء، ثم جاء إخوته الثلاثة. إنه لا يراهم إلا مرة أو مرتين في الشهر. يأتون لزيارة والديهم ومع كل منهم هاتفه الخلوي وجهاز حاسوبه الشخصي. يغرق الجميع في أجهزتهم طوال الزيارة، حتى إن الوالدين ضجرا من سلوكهم.
قالت الأم:
– نشحذ رؤيتكم شحذة.
وقال الأب:
– كنا لا نحب أن تفارقونا وأنتم صغار، وما زلنا لا نحب فراقكم وأنتم كبار. وحتى عندما نراكم لا ترفعون رؤوسكم عن أجهزتكم الشيطانية.
وقالت الأم:
– يا حسرة علينا كبرنا!
قال الابن الأكبر:
– زماننا يا أبي ليس مثل زمانكم. لم تكن عندكم هذي التكنولوجيا الساحرة.
قالت الأم:
– الله يساعدكم على زمانكم!
بعد خروج إخوته سأل أباه:
– لماذا لم تنجب يا أبي غيرنا؟ ألم يكن في خطتك إنجاب أولاد كثيرين ليكون لي إخوة وأخوات.
ضحك الأب:
– اسأل أمك!
ردت الأم بحياء:
– أمر الله.
قال بتحسر:
– لو كانت لي أخت! لكان الجو في بيتنا أكثر هدوءًا وسعادة. كم أحس بالوحشة دون أخت! ليتني جربت ذلك الشعور! الآن فات الأوان.
قال الأب:
– سنسرع في زواجك. الزوجة يتجمع فيها حنان الأخت، ورأفة الأب، وعطف الأم.
قالت الأم:
– الزوجة كل شيء في الحياة.
قال بأسى:
– لا أحد يسد مسد الأخت.
في اليوم التالي، وفي الوقت نفسه جاء البنك. كان غاصًا بالعملاء. سحب بطاقة انتظار، وجلس في المكان نفسه يتأمل تلك الفتاة، ويقارنها بكل الفتيات اللائي شاهدهن في حياته. لم يجد مثيلها، فارتأى أن يناديها المتفردة. ظل على هذه الحالة، حتى اقترب موعد المناداة على رقمه فانسل بخفية وغادر المكان.
جاء في اليوم التالي. كان البنك شبه خال من العملاء، فما إن جلس حتى نودي على رقمه. كان دوره عند السيدة في الشباك الأول. ارتبك. ماذا يفعل؟ استمع إلى رجل يطلب سحب مال من رصيده، فذكره الرجل بأن يطلب مثله. ابتسمت الفتاة وهي تنقل رقم هويته بعد أن وقع على نموذج السحب. رجته هامسة ألا يطول غيابه عن البنك. أجابها:
– لن يطول وأشكرك على ابتسامتك.
نسي ما قالته السيدة، وذهب إلى البنك في موعده، وجلس في مكانه المعتاد. تصنع انتظار دوره. جاءت السيدة إليه، وجلست بجانبه. قالت برقة:
– ما الأمر يا سيد؟ كل يوم تأتي في هذا الموعد ونراك تراقبنا، ثم تذهب أحيانًا دون أن تطلب أية خدمة.
أجابها بصدق بأنه لا يدرك بوضوح سبب مجيئه، ولكن إذا كان يضايقها، أو يضايق أحدًا فلن يحضر كثيرًا.
قالت وهي تحرك شعرها إلى الخلف:
– في الحقيقة إن زميلتي شيرين ترى أنك تراقبها، وتلاحقها بنظراتك وفي ذلك إحراج لها كما تعرف. على كل حال إذا كانت رغبتك صادقة فأنا أتدبر الأمر معها، ونرى موقفها النهائي منك.
– أشكرك إني أتأمل في هذه الأيام لا غير.
خرج تتصارع في نفسه أفكار شتى. فمن ناحية تلك السيدة على حق، فمن غير المعقول ان يأتي البنك لينظر إلى فتاة نظرات غريبة لا يحتملها الناس هنا، وإن كان يعدها نظرات روحية سامية. ومن ناحية أخرى فإنه لا يستطيع أن يحتمل عدم رؤية تلك الفتاة. انتهى إلى أنه لن يتوقف عن الذهاب إلى البنك، ولا يقدر أن يمنعه أحد من الجلوس في ذلك المقعد وتأمل وجه شيرين.
امتنع يومين عن المجيء إلى البنك، وعندما جاء لاحظ أن السيدة والفتاة تنظران إليه بفرح وسعادة. بل إن السيدة أشارت بيدها إليه، وأما شيرين فابتسمت في وجهه ابتسامة بددت كل مشاعر الإحباط والكآبة والحزن في نفسه. لكن لا يدري كيف نهض وخرج مسرعًا على غير العادة في الأيام السابقة.
غاب مدة بعد الحادثة. ذهب إلى الخارج في مهمة لشركته. في يوم عودته ذهب إلى البنك. لم تكن شيرين في مكانها. تغير وجهه، واضطربت حركته. اتجه نحو زميلتها. انتظر حتى انتهت من خدمة أحد العملاء. بادرته دون مقدمات:
– شيرين تركت العمل؛ لأنها خطبت وستتزوج في الأسبوع القادم.
ربما كانت تنتظر منه أن يبكي، أن يحزن، أن يحس بالندم على ضياع شيرين من يديه. لكن الفرحة ارتسمت على وجهه. وتمنى لو يقدر على مشاركتها فرحتها، ولكنه يخشى من العادات والتقاليد التي تكبل حركة الإنسان في تعامله مع من يحب. قال بسعادة واضحة:
– أجمل خبر سمعته في حياتي.
هم بالخروج أوقفته السيدة وخاطبته بدهشة:
– لم أعرف حبًا مثل حبك، ولا إعجابًا مثل إعجابك. أمرك غريب.
– وأنا لا أعرف ما السر في ذلك.
في البيت لاحظت الأم حالته الغريبة:
– الحمد لله! يبدو أن الصنارة غمزت.
قال الأب:
– نستطيع اليوم أن نكلمك على الزواج!
– بل بإمكانكم البحث عن عروس تليق بابنكم