أقول في يوم اللغة العربية

18 ديسمبر 2024
أقول في يوم اللغة العربية

بقلم د. ريحان المساعيد

اللغاتُ عامة، واللغة العربية منها خاصة ذات محمولات ثقافية ووجدانية وفكرية ودينية وتاريخية وإنسانية أصيلة… إلخ، فهي لغة عميقة الجذور، وليس لأمة مثل ما للأمة العربية من لغة؛ لغة عظيمة ومقدسة ومعجزة، وقوية وراسخة ومتماسكة بكل أنظمتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية… فليس لأبناء الأمة العربية خيار إلا الحفاظ على هذه اللغة بكل الوسائل؛ لأن وجودها الفاعل وجود لهم وفاعلية، وغيابها أو ضعفها ضعف لهم ونكوس وتخاذل وانكفاء على الوهم والهاوية والهلاك…

ولكن لا يخفى على أحد أننا غدونا في بلادنا العربية نحارب لغتنا (سواء علمنا ذلك أم لم نعلم، وسواء قصدنا ذلك أم لن نقصد) وربما نعادي من يتحدث بها أو يتقنها أو يدافع عنها؛ لأنها قد ارتبطت تاريخياً بشكل ما بالحركات القومية التي استثمرها بعضهم لمنافع شخصية، أو لتحقيق مآرب سياسية، وهو كذلك ما يحصل عندما نعادي الدين والمتدين؛ لأن بعض الأحزاب _ كما يرى أرباب السياسات في عالمنا العربي أو كما يشعرون أو يعتقدون _ قد اتخذت العقيدة أيديولوجية فكرية، ولم تقم بإعداد برنامج عملي اجتماعي واقتصادي شامل، ولهذا يتم فصل الدين عن الدولة المدنية، وكأن الدين مقتصر على علاقة الإنسان بخالقه فحسب…

لقد بتنا في منظوماتنا العربية السياسية نقر ونعترف بهويتنا وجذورنا الراسخة وثقافتنا العميقة والأصيلة، ونتفاخر بهذه الهوية ونتخذها شعاراً ومداراً وفلكاً، ونتغنى بها ونهتف لها، لا بل ونضع القوانين التي تؤيد ذلك (كقانون حماية اللغة العربية)، ولكننا في الواقع لا نجد تفعيلاً أو تنفيذاً يُلزمُ المجتمع بمؤسساته وأفراده على تطبيق مبادئ هذا القانون، كما يطبق مثلا قانون السير على السائقين، فيظل ذلك حبراً منقوشاً على ورق، فلا يفعل لا بقرار سياسي شامل، ولا حتى بقرار إداري محدود…

لا بل وأصبح بعضنا يتبجح ويتفاخر ويرفع صوته ويجاهر بكل ما يخالف العقل والمنطق، ويحاول إلغاء تاريخنا ووجودنا وخصوصيتنا ولغتنا بكل محمولاتها الثقافية والدينية والوجودية… ويُقنعُ نفسَه بأنه على صواب، وكل من يخالفه فهو على باطل أو خطأ، ويجد أنّ من يتمسك بجذور ثقافته يعيش في عوالم مثالية بعيدة عن الواقع، لا بل ويُتهم بأنه فاسد يريد إهلاك الحرث والنسل… (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) …

ولذا _ وفي ظل هذا الواقع المأزوم _ ثقافياً، وخاصة في تبعيتنا وتحالفاتنا أو خضوعنا لغيرنا… فستظل قوانين حماية لغتنا مسطورة على الورق، تعود إليها الإرادة السياسية عندما تشعر أنها بحاجتها فقط (في مرحلة ما، أو انعطافة كبرى، أو تحول اجتماعي عميق لا يمكن التغاضي عنه أو إهماله)، تأخذ حاجتها منها، أو تفعّلُ جزءاً يسيراً من مبادئها… ولكن وبعد ذلك تُطفَئُ جذوتُها، أو تُترك جامدةً تلفظ أنفاسَها بصعوبة، أو تغطّ في سباتٍ عميق وطويل…