بقلم : د. لبيب قمحاوي
يعاني معظم الفلسطينيين والشعوب العربية ضغوطاً هائلة وعذاباً نفسياً مريراً من حجم المعاناة التي يمر بها العرب عموماً والفلسطينيون في إقليم غزة وإلى حد ما في الضفة الفلسطينية وكذلك ما جرى في لبنان وما يجري الآن في سوريا من مؤامرة تهدف إلى تمزيق سوريا وتقسيمها ، بحيث أصبح معظم أولئك الفلسطينيين والعرب غير راغبين في سماع المزيد من الأخبار السوداء والتحليلات شديدة البؤس والمرارة على الرغم من صحتها . القلب لم يعد يحتمل والعقل لم يَعُدْ يَقـْبلَ . هذا هو الشعور الفلسطيني والشعبي العربي العام بعد أكثر من عام من المذابح والدمار والوقاحة الأمريكية والإسرائيلية المتزايدة في مخالفة ومعاندة القانون الدولي والعرف الإنساني العام .
القضايا التي تجابهها أمتنا العربية في إزدياد والتآمر عليها وعلى الدول العربية ابتدأ يأخذ مساراً علنياً دون أي اعتبار لردود الفعل العربية ، حيث بات من الملحوظ أن الموقف العربي في أدنى درجات الفعالية وأعلى درجات الضعف وإلى الحد الذي تتعرض فيه دول عربية للقتل والتدمير ودول عربية أخرى للعدوان والتقسيم ، ولا يزال الموقف العربي من هذه التطورات غائباً ومحصوراً في الإحتجاج السياسي والمساعدات الإنسانية والعالم يعلم هذه الحقائق ويتصرف على أساسها .
يَعْتَبِر العديد من السياسيين الأمريكيين والغربيين والإسرائيليين بأن الأحداث الدولية قد تجاوزت ترتيبات سايكس – بيكو التي تنتمي إلى النظام الدولي القديم الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في مخرجات سايكس – بيكو دون أي إعتبار لتبلور الهويات الوطنية والهوية القومية العربية الجامعة لدول المنطقة ، مما يعني غياب أي اعتبار للإنتماآت الوطنية والقومية لشعوب تلك الدول ، والإكتفاء بالهويات الدينية والمذهبية والعرقية التي تُفَرّق ولا تجمع وذلك تكريساً لهدف التقسيم .
تشير كافة المؤشرات والتطورات إلى أن منطقة الشرق الأوسط عموماً ، والعالم العربي على وجه الخصوص ، مقبلة على تغييرات أساسية وإعادة هيكلة سوف تتم ترجمتها من خلال عمليات تقسيم متتالية لعدة دول عربية على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية بهدف تحويل المنطقة إلى موزاييك من الدويلات قد يماثل معظمها إسرائيل في حجمها ولكن ليس في قوتها . إن هذا التقسيم لن يقف عند حدود دول المشرق العربي ولكنه قد يمتد بالنتيجة إلى منطقة الخليج ومناطق حزام النفط والغاز في الشرق الأوسط والتي قد تتحول بالنتيجة إلى محمية أمريكية خالصة وتخضع مباشرة للإدارة الأمريكية.
تتجاوز الأحداث الحالية دائرة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي التقليدية إلى الدائرة الأوسع التي تتعلق بمستقبل إقليم الشرق الأوسط وإعادة تشكيله وتشكيل العلاقات بين شعوبه والتي سيتم اختصارها إلى علاقات بين دويلات طائفية أو مذهبية أو عرقية ولا علاقة للأمر بأي أعذار وحجج قد يتداولها البعض بما في ذلك تطبيق الديموقراطية مع تجاوز واضح للهويتين الوطنية والقومية اللتان سوف تصبحا بلا معنى ضمن التقسيمات المنتظرة إلى دويلات .
التحكم في المستقبل سوف يتم من خلال الإقتصاد والتكنولوجيا . أمريكا تعلم ذلك والصين تعلم ذلك والدول الصاعدة مثل الهند والبرازيل وباكستان تعلم ذلك أيضاً . وهذا يعني أن العوامل السياسية والعقائدية التي كانت تحكم مداخل السياسة الدولية ومخارجها قد أصبحت بلا قيمة أو ذات قيمة ثانوية مما يجعل الصراخ السياسي أو العقائدي التقليدي للشعوب بلا صدى مهما إرتفعت وتيرته .
العالم قد أصبح الآن أكثر ازدحاماً والموارد الطبيعية أكثر ندرة مما يجعل الإستيلاء على الموارد الطبيعية للأخرين من قبل الدول الأكبر والأقوى أولوية قصوى وأمراً يصب في المصلحة الوطنية لتلك الدول الكبرى .
لقد فشلت شعوب الدول الصغيرة أو الهامشية في تطوير نفسها وبقيت أسيرة لرؤية من الأفكار والسياسات التقليدية ضمن أنظمة استبدادية أنانية جاهلة ساهمت جميعها في تحويل تلك الدول إلى دول فاشله تحكمها أنظمة تعبث بمواردها وتبددها حسب مزاجها وأهوائها . وهذا الوضع قد أعطى الدول الكبيرة والمؤثرة الفكرة الشيطانية بأن هذه الدول الصغيرة لا تستحق الموارد الطبيعية والثروات التي تبددها وتبذرها كما تشاء وأن الدول الكبرى ترى نفسها الأحق بالسيطرة على تلك الموارد وامتلاكها على إعتبار أن تلك الموارد الطبيعية يجب أن تكون تحت سيطرة من يعرف كيف يستعملها ويستغلها . وبالطبع فإن مثل هذه الرؤية تفتح الباب أمام شرعية الغاب في العلاقات بين الدول والشعوب وتطلق يد القوي على مستقبل ومقدرات وموارد الضعيف . هذه هو أساس الوضع السائد الآن والذي يهدف بالنتيجة إلى حماية وجود إسرائيل أولاً والاستيلاء على موارد المنطقة ثانياً .
الرد الأساسي والأهم على محاولات تقسيم الدول العربية إلى دويلات هو في العودة إلى الشعار القومي الجامع والمناداة بالوحدة العربية سواء الإقتصادية أو الأمنية ولاحقاً السياسية بشكل جدي ومخلص والتركيز على وحدة وتكامل المصالح العربية الاقتصادية والأمنية . وفي نهاية الأمر فإن انقاذ العرب والعروبة لن يتم إلا من خلال إعادة انخراطهم في القضية الفلسطينية بإعتبار العروبة هي الحاضنة الطبيعية لهذة القضية . الفلسطينيون والقضية الفلسطينية سوف يشكلوا نقطة الاستقطاب الجديدة لكل الشعوب العربية الطامحة والهادفة إلى الحفاظ على هويتها الوطنية والقومية وولايتها المفقودة أو المشتتة على أوطانها أو استعادتها إذا ما فُقِدَت .
العودة إلى العروبة والحاضنة القومية العربية هي الطريق لإنقاذ العرب والعالم العربي من مخططات تسعى إلى تمزيقه وتدميره . القومية العربية هي الإطار الجامع الذي يحتاج إليه العرب الآن للرد على مخططات التقسيم التي تنتظره وبخيارات طارده مثل الهوية الدينية أو المذهبية أو العرقية التي تضع الأساس للتقسيم وتبرره من منظور أمريكا والعالم الغربي . وللأسف ، فإن معظم الأنظمة العربية عندما فشلت لأسباب أنانية في ترجمة الطبيعة الجامعة للقومية العربية من خلال الوحدة العربية ، سعوا بجهد إلى التخلص منها من خلال التركيز على هويات أخرى فرعية تبرر تقسيم العالم العربي وتضع الأسس المستقبلية لذلك التقسيم .
إن التخلص من الهوية القومية العربية قد جاء في سياق إنسحاب العرب من القضية الفلسطينية وتحويلها إلى صراع ثنائي فلسطيني – إسرائيلي . وهذا الموقف السلبي هو أساس الدمار والإنهيار الذي تعيشه القضية الفلسطينية والعالم العربي الآن . وقد يكون من العدل والانصاف تحميل مسؤولية حصول ذلك للأنظمة العربية التي تقود السياسات في دولها دون أي اعتبار لموقف شعوبها . والهوية القومية العربية ليست سياسية حصراً ، وليست اختيارية في منظورها التاريخي والواقعي كما أنها ليست حزباً سياسياً ، ولكنها بالضرورة هوية ملزمة لا يمكن التخلي عنها والاحتفاظ بالقدرة على الإستمرار في الوقت نفسه .
لقد وقعت الأنظمة العربية والعديد من المثقفين العرب في فخ الإستخفاف بالهوية العربية واعتبارها ارثاً قديماً لايصلح للعالم الجديد . القومية العربية ليست عبد الناصر، إذا ذهب ذهبت معه ، كما أنها ليست حزباً سياسياً يترجم نفسه بالناصرية أو حزب البعث أو حركة القوميين العرب فهي أكبر منهم جميعاً . إن محاولة البعض تحويل الهوية القومية العربية والحاضنة القومية العربية إلى حزب سياسي هي محاولات مشبوهة أقل ما يمكن وصفها به بأنها محاولات ساذجة تهدف إلى وضع المارد العربي في القمقم الحزبي . القومية العربية ليست هوية مُعَارِضة للدين ، فهي أشمل . فالهوية القومية العربية تشمل كل العرب من مسلمين ومسيحيين ودروز الخ وتشمل كافة المذاهب والطوائف الدينية سواء أكانت سماوية أو وضعية ، كما أنها تشمل كافة الاجناس والأعراق المنتمين إليها من أبناء الأمة العربية . هي الهوية الجامعة التي نحتاج إليها الآن لنتمكن من السباحة إلى برّ النجاة مما يستدعي العمل على إعادة احياء مؤسسات العمل القومي السياسية والاقتصادية والإجتماعية وإعادة ضخ الدماء في عروق الهوية القومية الجامعة والتي تلغي الحاجة إلى هويات فرعية سواء أكانت عرقية أو دينية أو مذهبية