ذكريات حي السعادة

6 ديسمبر 2024
ذكريات حي السعادة
د. محمد عبدالله القواسمة روائي وناقد وأكاديمي
مرت مدة طويلة على تركه البيت، الذي كان يسكنه في حي السعادة الشعبي. انتابه الحنين إلى أن يراه، ويرى ما حل به بعد تلك السنين. لن ينسى تلك الأيام التي قضاها في المكان. هل ينسى الإنسان جزءًا من تاريخه؟
اتصل بالحاج سليم الذي ابتاع البيت؛ ليسأله عن حاله، وهو في الحقيقة ليوحي له برغبته في رؤية المكان. لم تفت الحاج سليم تلك الرغبة. فبثه بدوره الشوق لرؤيته، وتمنى أن يلتقيا في أقرب وقت. أبلغه بأنه قادم إليه في الحال.
كان الوقت عصرًا، والجو يبعث الفرح في نفسه، عندما استقل سيارة إلى حي السعادة.
لفت انتباهه في الحي تطاول البنايات وتزاحمها، والتصاق بعضها ببعض، وكثرة الأطفال الذين يلعبون في الأزقة. سار في الشارع الذي يؤدي إلى البيت. عائلات تجلس أمام البيوت، وأمامهم ومن حولهم أكياس القمامة السوداء. وزاد الطين بلة تلك المياه، مياه المجاري، والغسيل التي تسير بهدوء في الشارع.
كاد يتيه عن البيت لِما ارتفع حوله من البيوت، فبعضها ينتهي إلى خمسة طوابق، مع أن المساحة التي ترتفع عليها صغيرة، لا تتجاوز الستين مترًا مربعًا، مثل بيت عائلة العباسي الذي يشبه (مولًا) بشريًا، يعيش فيه الآباء والأبناء والأحفاد.
كان الحاج سليم أمام البيت وأحفاده يلعبون الكرة أمامه، وهو يصرخ عليهم أن يختفوا في جحورهم. استقبله بالترحاب، ودعاه إلى الدخول.
وقف بالباب يتأمل أشجار البيت. شجرة العنب قد جفت ولم يتبق منها غير ساقها المتحطبة؛ أما شجرة الكولونيا فلا أثر لها، وحلت محلها شجرة مشمش، ولكن شجرة التين بقيت صامدة في آخر الممر، توزع أغصانها على الجيران بجانب البيت من جهة الشمال. شعر بالحزن، وسرح ذهنه إلى تلك الأيام، التي كان يجلس فيها تحت شجرة العنب، ويقطف من أوراقها؛ لتستخدمها زوجته في عمل الدوالي. أيقذه الحاج سليم:
– كل شيء يتغير ونحن نتغير أيضًا. ما علينا إلا أن نتقبل هذا ونتعايش معه. نحن الآن هنا وغدًا لا نعلم أين.
– هذا صحيح، والإنسان سريع التكيف مع التغير. ولكن، هل أنت سعيد في هذا المكان؟
أجاب بأنه حي لا تشعر فيه بالوحشة، وأهله دائمو الحركة. حي السعادة فعلًا. ما ينقصه غير الاهتمام بالنظافة، فكما ترى القمامة تملأ الحي، وعمال البلدية لا يقدرون على التخلص منها.
علا في بيت الجيران صوت امرأة تشتم جارتها بألفاظ بذيئة، والجارة ترد عليها بوصفها أشنع الصفات. ثم احتد بينهما التراشق بالألفاظ، وتطور إلى تدخل الكبار والصغار، واستخدام الحجارة بين الطرفين حتى أصابت الباب الخارجي.
صاح الحاج سليم على أولاده ألا يخرجوا حتى لا يصابوا بأذى. وعلق على ما يجري بأنها خلافات لا بد منها بين الجيران، وهي خلافات بسيطة، تنتهي عادة دون خسائر تذكر.
أسف لهذه الحالة:
– لم تكن تحدث في أيامنا.
– الناس كثرت في الحي، وكثرة الناس تقتل الحب، وتخلق المشاكل بينهم.
انتظر حتى انتهت المعركة، واستأذن في الخروج. شيعه الحاج سليم إلى الباب، وهو يدعوه إلى تكرار الزيارة.
سار قليلًا في الشارع. ألقيت على رأسه حفاظة طفل. رفع رأسه. لم ير أحدًا في الأعلى. شعر بتقزز. لم تكن هذه العادة عندما كان في الحي. بل كانت رائحة شجرة الكولونيا تملأ الشارع.
تابع السير. رأى جماعة من الشرطة أمام بيت على مدخل الحي. سأل شابًا فقال إنهم يبحثون عن تاجر مخدرات.
تنفس الصعداء عندما صار خارج الحي. وحزن على ذكرياته التي شوهتها تلك الزيارة لحي عاش فيه.