حين يوضع الروائي في قفص الاتهام

منذ 5 ساعات
حين يوضع الروائي في قفص الاتهام
كتب د. محمد عبدالله القواسمة:
يوجه إلى الروائي، وبخاصة من بعض القراء والنقاد الاتهام بسوء الخلق، وانحراف السلوك عندما تحتوي روايته مشاهد جنسية واضحة، أو يكون موضوعها العلاقة بين الرجل والمرأة خارج العلاقة الزوجية. وكثيرًا ما يوجه ذلك الاتهام إلى روائيين معروفين بحسهم الإنساني، وسلوكهم النبيل.
يثير هذا الاتهام قضايا مهمة، قد تكون غائبة عن أولئك القراء والنقاد، في مقدمتها طبيعة الخلق الفني وخاصة بما يتصل بالفن الروائي، ثم علاقة الروائي بروايته بما فيها من أحداث وشخصيات ووجهات نظر، ثم الحكم على الرواية.
فطبيعة الرواية من الناحية الفنية أنها مثل، غيرها من الفنون كالشعر والموسيقى والمسرحية تهتم بإثارة الجمال لدى المتلقي. فهي ليست وثيقة دينية أو أخلاقية، وإن كان موضوعها دينيًّا أو أخلاقيًّا، فهدفها الأول أن تخترق قلب المتلقي؛ ليحس بنشوة جمالية ترقق عواطفه، وترتقي بروحه. وإذا نجح هذا الهدف فربما يؤدي إلى تحقيق أهداف أخرى كتبني رأي، أو فكرة، أو سلوك طريقة معينة. ومن هنا تكمن خطورة الفن الروائي أو الفن عامة، كما نلمس تلك الخطورة في تأثير روايات، مثل: «كوخ العم توم» لهيريت بيتشر ستو، و»الأم» لغوركي، و»آلام فيرتر» لجوته وغيرها، فكل منها كان له تأثيره في المجتمع. أما عن علاقة الروائي بروايته فهي علاقة ليست متطابقة مع حياته وصفاته؛ فالرواية عالم قائم بذاته، وهذا لا يعني أنها لا تحمل بعض ملامح مبدعها وصفاته، فبعض الروايات تفصح عن هذه الملامح والصفات، مثل روايات غالب هلسا على سبيل المثال. كما توجد بعض الروايات التي تفصح عن ملامح وصفات مغايرة لمؤلفها، مثل روايات بلزاك التي تظهره وفيًا للواقع ومشاكله، ورافضًا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية وأخلاق الإقطاعيين وسلوكهم، بخلاف ما عرف عنه من وفائه للكنيسة الكاثوليكية والملْكية. فلا توجد رواية تتطابق كليًّا مع حياة صاحبها، وإذا كان هذا التطابق فلا يوصف العمل بأنه رواية بل سيرة ذاتية، أو وثيقة تاريخية أو اجتماعية أو تربوية.
أما الحكم على الروائي من خلال عالم روايته وشخصياتها، أو من خلال بعض المشاهد أو الجمل والتراكيب التي تحتوي مشاهد جنسية، أو آراء مخالفة لما استقر في أذهان الناس، فهو حكم يجانبه الصواب؛ فالرواية التي شخصيتها الرئيسية لص، أو شارب خمر، أو مجرم لا يعني أن مؤلفها كذلك.
أما بالنسبة إلى الحكم على الرواية فمن الخطأ الحكم عليها انطلاقًا من رؤية تجزيئية لها، فالحكم الصائب أن يحيط الناقد بعناصرها كلها من زمان، ومكان، وشخصيات، وحوار، ووصف وأن تُفهم هذه العناصر ضمن السياق العام للرواية، للوصول إلى ما أراد الروائي أن يقوله، فقد تكون رواية غارقة بمشاهد الجنس، ولكن حضور تلك المشاهد متسق مع الأحداث، ومن الضروري وجودها ليكتمل بناء الرواية، واتضاح رسالتها التي ربما تكمن في تصحيح بعض المفاهيم، أو فضح بعض الممارسات الجنسية في المجتمع، مثل: رواية «تاييس» لأناتول فرانس، أو «غادة الكاميليا» لألكسندر توماس الابن، أو «مدام بوفاري» لفلوبير، و»كرة اللحم» لموباسان وغيرها. فهي روايات تقدم رسالتها الإنسانية باستخدام شخصيات من عالم الضياع الجنسي.
استنادًا إلى فهمنا الرواية، وطابعها الجمالي، وعلاقتها بالروائي نرى أن نجاح الرواية من الناحية الجمالية يعني نجاحها في التعبير عن الحياة والإنسان بصدق وعمق؛ لأن الأساس في الجمال أنه لا يلتقي مع الظلم والرذيلة والفساد والتوحش، إنه الجمال الروحي الذي عبر عنه دستويفسكي، الجمال الذي سينقذ العالم، ويحمي القيم الإنسانية، ويجعل الإنسان نقيًا وجميلًا.
ويتأسس على تلك الحقيقة، التي نظنها صحيحة، بألا يتولى الحكم على الرواية غير الروائيين والنقاد المؤهلين لفهم الفن عامة والرواية خاصة؛ ليتعرفوا مواطن الجمال في الرواية، أو مواطن انحرافها، ويترك لهم تقدير خطورة هذا الانحراف وضرره على الذوق العام للمجتمع وقيمه وعاداته وسلوكه، وإعلان ذلك على المتلقي حتى لا يتعكر حسه الجمالي.
أما الروائي فمن العدل أن تتعامل معه السلطات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية بعيدًا عن رواياته؛ لأن الفن الروائي عالم تخييلي، يمتزج فيه الخيال بالواقع، فلا يستطيع أحد الإمساك بهذا العالم؛ ليسوغ إدانة لصانعه، كما أنه أصبح ملكًا للمتلقي، له أن يقابله بالإهمال أو بالاهتمام.