ذكر الله تعالى في قصة ملكة اليمن بلقيس حوارا دار بينها وبين مستشاريها وقادة جنودها حين جاءها كتاب سليمان عليه السلام: ( يا أيّها الملأ أفتوني في أمري ماكنت قاطعة أمراً حتى تشهدون).
هذا السؤال ضمن هذا الحوار في إشارة لوجود شيء لديها كملكة أشبه بمجلس الشورى. ويويد الأمر جلاء قول الإمام القرطبي في تفسيره للآية: الملأ أشراف القوم.
هذا المشهد يتكرر في القرآن الكريم حين يذكر الله تعالى شأنه حوارا مشابها ولكن هذه المرة على لسان فرعون: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه).
فعلى الرغم من جبروته وسلطته المطلقة لكنه عاد فاستشار ضمنياً أهل الرأي منهم، وهو ماذكره الإمام البغوي في تفسيره، لأن ثمة من كان بين قوم فرعون من يخوفه قتل موسى.
والسؤال الملح هنا: من هم هؤلاء المستشارون الذين يصطفيهم الملك لمشورته؟ وماهي صفاتهم؟
هنا يبرز أمامنا مصطلح “أهل الحل والعقد” ! .. وهو مصطلح يظهر عند الحديث عن البيئة السياسية، ويستعمله كثير ممن كتب أو يكتب في القضايا السياسية التي قد تصل عند حدود إقرار واختيار حاكم جديد بعد الذي رحل.
لكن الحق والحق اقول أن هذا المصطلح من جهة البناء اللفظي لم أجده لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، لكن معناه وبعض مبناه ظهر في كلام وكتابات بعض العلماء المسلمين المتقدمين كأبي الحسن الأشعري، ومن بعده الباقلاّني، ثم تلقّفه أبو يعلى الفرّاء والماوردي في كتابيهما واللذين يحملان نفس الإسم “الأحكام السلطانية”.
وكما قلت فإن هذه العبارة حين استخدمها هؤلاء العلماء لم يستخدموها كمصطلح منفصل خاصة عند أبي الحسن الأشعري، لكن الإمام الباقلاني كان استخدامه لهذا المصطلح مع الوقت أكثر ترسّخا حتى بدت كعبارة دالة، بسبب تكرار الباقلاني لاستخدامه بسبب التفصيل المستفيض الذي لجأ إليه الباقلاني في مسألة اختيار الحاكم.
لعل البنية اللغوية لهذا المصطلح يزيح الستار عن مراد مستخدميه وطريقة التفكير التي دفعتهم لاختيار هذا المصطلح بعينه، بل ويعكس شيئا من نظرتهم لهذا العالم.
وقد ينقدح في الذهن حين مراجعة عبارات الأشعري والباقلاني في هذا الباب أن مصطلح ” أهل الحل والعقد” استخدم على سبيل الرد على الشيعة الذين يقولون بوجوب النص في اختيار الحاكم! فلم يكن استخدامهم له للدلالة على آلية سياسية واضحة المعالم.
لكن بعد ذلك تجد أن الاستخدام بدأت تتضح معالمه كما عند الماوردي والفراء وغيرهما. ليصبح بعد ذلك شائعا لدى الفقهاء وعلماء أصول الفقه واهل الكلام والسياسة في محاولات منهم للموائمة بين مجريات سياسية حدثت في عصرهم من جهة وبين التصور الشرعي! مع عدم تجاهل السوابق التاريخية التي لا يمكن تغافلها كآلية اختيار أبي بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين.
مع أن استخدام عبارة كهذه العبارة في حق مجتمع الصحابة ومن بعدهم من كبار التابعين مسألة “طبيعية” تنسجم من واقع اجتماعي قائم بالفعل.
ولدى الرجوع إلى المعجم الفقهي تبرز لنا ثلاثة مفاهيم لهذا المصطلح:
– قادة المجتمع وأعيانه وذوو الرأي في شؤونه العامة.
– أما عند الفقهاء والمتكلّمين فهم نوّاب الأمّة أو أي مجتمع أو قطر مسلم، الذين ينوبون عن الكافة في اختيار خليفة أو حاكم، أو في خلعه. ويشترط فيهم الخبرة بما يقومون به، دون بلوغ مرتبة الاجتهاد الفقهي.
– وأما المفهوم الثالث فهم الفقهاء وأهل الأصول والمجتهدون القادرون على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وباتفاقهم على حكم شرعي ينعقد (الإجماع)، وصفاتهم مبيّنة في علم (أصول الفقه).
وإن تأملنا هذه الإطلاقات أو المفاهيم لوجدنا أن الإطلاق الأول إطلاق عام يحتاج إلى تفسير لإزالة الإبهام عنه، فمن هم قادة المجتمع؟ ومن هم أعيانه؟ ومن هم أهل الرأي في شؤونه؟.
لذا نجد أن الإطلاق الثاني والثالث هو في حقيقة الأمر جاء ليخصص اللفظ العام (الإطلاق الأول) وهو أنهم: “أهل العلم”، و”أهل السلطة الاجتماعية”.
ولعل قائلا يقول: هذان معنيان يسيران في اتجاهين مختلفين تماما.
مع أني لا أجد أن في إحداث نوع من الوحدة المفاهيمية بين الاتجاهين أمرا عسيرا !.
فأهل الحل والعقد يدورون بين أمراء وعلماء و وجهاء .. أو بشكل أعمق هم العلماء وأهل السلطة الاجتماعية.
وقد يحاول البعض التشكيك في هذا المنحى بحجة أن أهل العلم لا شوكة لهم وبالتالي فذكرهم هنا إنما على سبيل إضفاء طابع شرعي على أي قرار سيتم اتخاذه. وهذا كلام قد يروق أصحاب الاتجاهات الثورية العاطفية.
وقد يروق البعض أن يفرق بين عبارة أهل الشورى وعبارة أهل الحل والعقد ! ..
مع أني في قرارة نفسي لا أجد تعارضا بين المصطلحين إذا ما قلنا: إن من يجتمعون لبيعة الحاكم عقب رحيل سالفه هم من يتقوى بهم هذا الحاكم نفسه على تثبيت حكمه. فلا بد أن يكونوا أهل شوكة، وهذا الحاكم متى ثبتت بيعته احتاج من يشاورهم في شؤون الدولة فهم من أهل مشورته ولا بد.
ثم من قال أن العالم الشرعي ليس له شوكة؟ فإن لم تكن شوكته قبيلته كانوا أتباعه الذين يأتمرون بفتواه.
ولا يمكن القياس على علماء باعوا دينهم بثمن بخس دراهم معدودات! فهؤلاء لا قيمة لهم مرجوة ووجودهم كعدمه.
إذا فإن أهل الحل والعقد أهل شوكة ولا ريب .. وإلا فلا قيمة لحلهم ولا لعقدهم .. وهؤلاء قوم لا يستتب الأمر في الدولة إلا بهم مجتمعين وبطاعتهم لولي أمرهم، فإن مقصد الحكم هو القدرة والسلطان، ولذا بين ابن تيمية رحمه الله أن كل من بويع فكانت له القدرة والسلطان بات إماما للناس.
ولا يمكن أن يستتب الأمر بموافقة واحد أو اثنين من أهل الشوكة بل لا بد أن يجتمعوا على ذلك.
البعض من الحمقى لايفقهون حقيقة هذه التوازنات وأصولها الشرعية المرعية، ويعتبرونها توازنات سياسية لا علاقة لها بالدين! وقد خابوا وخسروا حين لم يفقهوا.
والبعض يرى أن المجالس البرلمانية طريق لإفراز أهل الحل والعقد في الدولة لكنهم في الوقت نفسه يشترطون أن يكون النظام الحاكم للمرشحين واضح المعالم لكي لا يفرز إلا من تتوافر فيهم صفات أهل الحل والعقد. ومابين الواقع والخيال ترى مفاهيما تائهة مضربة تحاول أن تجد لها مكانا بين مكوّنات الواقع السياسي الذي تعاصره، لكنه ليس مفهوما منهجيا يؤسّس لموقف سياسي متماسك.
نحن اليوم أمام عبثية البعض وتلاعبهم في مفهوم أهل الحل والعقد ومبدأ الشورى الإسلامي الأصيل، وقد يكون الرجل يظن نفسه من أهل الحل والعقد وأنه ممن يجب أن يستشار في الأمور العظام وهو عديم الشوكة في بيته وبين أهله وأبنائه. بل قد يعمد البعض لصناعة شوكة له بالحيل والألاعيب القذرة والمال الأسود وشراء الذمم التي يريد من خلالها فرض وجود له على ساحة أهل الحل والعقد.
وحتى وإن توشح أمثال هؤلاء بهذا الاسم -زورا وبهتان- فهم لن يكونوا إلا دمى يتلاعب بها من هم أهل شوكة فعليين وإن لم يكونوا ظاهرين للعيان باسمهم ورسمهم.
وللأسف فإن المردود السلبي لهذه العبثية لن يكون على هؤلاء وحدهم بل سيطال أمة بأكملها. وها نحن ننتظر الساعة لأن الأمر لا زال يوسد إلى غير أهله.