ثقافتنا الإسلامية, بين الدعشنة وتحريف المصطلحات

28 يناير 2021
ثقافتنا الإسلامية, بين الدعشنة وتحريف المصطلحات

بقلم الدكتور مصطفى التل

الثقافة الإسلامية من أعلى الثقافات العالمية سمواً ومن أغناها في الموروث الثقافي الفكري : فالثقافة الإسلامية متجذّرة في عمق الماضي , أبعادها الحقيقية ضاربة في الإنسان ثقافة وفكراً واجتماعاً , فهي متأصلة في الفرد المسلم , وتمتد على طول مساحة الكرة الأرضية المعروفة , وتبسط أجنحتها على المجتمع المسلم , بشقيه : المسلم ديانة والمسلم حضارة -وهو الذي يدين بغير الإسلام ولكنه يتأثر ويؤثر في الثقافة الإسلامية ويعيش تحت ظل هذه الثقافة – .

فهي موثّقة للتواصل , وموثّقة للفكر , وموثّقة للثقافة , ومعززة للتماسك الاجتماعي الفكري في المجتمع برمته على اختلاف طوائفه.

فهي غير متفردة بذات إنسانية تميّزها عن بني مجتمعها , وإنما هي صبغة عامة لمجتمع بأكمله , فهي تبني الذات من خلال ترابط أواصر العرى بين بني المجتمع الواحد . وعابرة لأجيال متعاقبة , غير متوقفة عند جيل بعينه , وتمتاز بأنها حق لجميع المجتمعات بدون استثناء .

الثقافة الإسلامية من خلال خطواتها المديدة عبر القرون المختلفة , تتبنى ثقافة كرامة الإنسان , بمختلف أديانه , ومختلف توجهاته الاعتيادية, فهي الكافلة لحريته وحقوقه , والكافلة لآدميته , تنطلق من منطلق انساني , لا منطلق حامل الخطيئة ووارثها, ولا منطلق شعب الله المختار الذي يحتقر كل بني آدم على وجه البسيطة , ولا منطلق الإنسان الحيواني الناطق .

في عصر داعش وأخواتها, واستخدام مصطلح الدعشنة للمخالف سواء في المنظومة الثقافية أو المنظومة الأخلاقية , ازداد وطأة الظلم للثقافة الإسلامية , وازداد الازدراء لمصطلحاتها ومفاهيمها.

ذلك أن بعض المنظومات الثقافية الضيقة الخارجة عن المجتمع الاسلامي ديانة وحضارة , وجدت في الدعشنة حل واسقاط لأي خلاف يكون من منطلق فكري , أو منطلق ثقافي , ذلك أنها استباحت لنفسها ومنظومتها الفكرية والأخلاقية , أن تحدد ما هو المناسب من الثقافة الإسلامية للاستخدام وما هو الغير مناسب الواجب الإسقاط , فما كان على منهج منظومتها فهو صالح للاستخدام حسب محدداتها , وما هو على خلاف منظومتها الفكرية والثقافية والأخلاقية , فهو مفهوم داعشي واجب الإسقاط على إطلاقه , هذه المنظومات الفكرية وضعت نفسها حاكما وقاضيا على الثقافة الإسلامية , على الرغم من أنها لا تمت للإسلام بصلة لا ديانة ولا حضارة .

على المستوى الجمعي للأمة الإسلامية , هذا العقل الجمعي , آثر الانسحاب من المشهد الفكري والثقافي , مستسلما لما يحدده الغير من مفهومات في ثقافتنا الفكرية الإسلامية , واضعا نفسه موضع الإسفاف الثقافي والفكري, متموضع في استماتة الدفاع , ونفي الشبهات عن نفسه ولو أدى ذلك إلى اضمحلاله وذوبانه وسط المنظومات الفكرية المتعددة التي وضعت نفسها معيارا لأي مفهوم حضاري وفكري إسلامي , خوفا من الاتهام بالدعشنة .

حقوق الانسان كمصطلح في الثقافة الإسلامية , أسيء فهمه وتم ازدرائه , وأصبح خاضعا لمفاهيم دخيلة على هذه الثقافة الإسلامية , ويجب على العقل الجمعي الإسلامي أن يتقبل هذا المصطلح كما ورد من المنظومات الفكرية التي وضعت نفسها قاضيا على ثقافتنا الإسلامية , وأي خروج عن هذا المفهوم المستورد , هو دعشنة , وجب محاربته واستئصاله من الوجود , لأنه ببساطة شديدة يتعارض مع تلك المنظومات الفكرية المستوردة .

حفظ الدين للإنسان من أي مؤثرات خارجية إجبارية وملوثة له, هو من حقوق الإنسان العالمية في الثقافة الإسلامية , وجب الحفاظ عليه بمختلف السبل والطرق , وترك التدين بدون أي مؤثرات تؤثر في هذه الحرية, منها منع الشتم الذات الإلهية أو التعرض لأي مقدس تهكماً ومنع شتم أي مقدس لأي دين آخر في المجتمع المسلم , حتى لا يكون هذا المقدس مستحقر عقليا وفكريا عند معتنقيه , قابله في المفهوم المستورد من منظومات فكرية خارجية مفهوم ( حرية الاعتقاد ) حسب قواعدهم الخاصة , على الرغم من أن مفهوم ( حرية الاعتقاد ) و ( حرية التدين ) غير مطبق و غير مسموح به في المجتمعات التي تتبنى هذه المنظومات الفكرية التي تدعي أنها تحميه , ولنا في الصين خير مثال , وفي ايطاليا وقوانينها التي تعاقب على ( التجديف ) بدون إقامة دعوى شخصية مثال واضح وضوح الشمس , وفي هولندا التي تسمح بحرق القرآن الكريم جهارا نهارا بدون أي مسائلة قانونية تذكر , وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي تسمح وتحمي التمييز الديني بامتياز , وفي بريطانيا التي تحمي كل منتقد للدين الإسلامي وشاتم لرسولها صلى الله عليه وسلم , وتعتبره مضطهد يجب أن تحميه , وفرنسا التي تبنت منظومة فكرية اقصائية للدين الإسلامي بكل وضوح .

وهنا تثار قضية السيف والجهاد في سبيل نشر الدين وحمايته , على أنه دعشنة , ويجب إسقاط المفهوم بالكلية باعتباره مصادم لمفهوم ( حرية الاعتقاد ) و ( حرية التدين ) حسب قواعد المنظومات الفكرية المستوردة , والتي للأسف الشديد العقل الجمعي الإسلامي أصبح مستسلما لها , حتى انه في بعض الأوقات وضمن آراء شاذة معدودة , حاولت إنكار الجهاد ومفهومه في الشريعة الإسلامية , في سبيل دفع تهمة الدعشنة عن هذا العقل الجمعي الإسلامي .

وحقيقة الجهاد هو أنه لا يعدو أن يكون دفع عدو أو إزالة حاجز يشكل عائق في طريق حرية التدين , إذ أن بعض المنظومات الفكرية لبعض الدول والمجتمعات, تمنع على أفرادها حرية اختيار الدين بحرية تامة – والذي تعتبره الثقافة الإسلامية حق انساني طبيعي للإنسان ويجب تحقيقه على المستوى العالمي – لا بل تمنع الإنسان من الاعتقاد بما يقتنع به, فجاء الجهاد لإزالة هذا العائق وحماية هذا الحق , وترك الإنسان بحرية تامة لاختيار الدين الذي به يقتنع , بدون اجبار ولا اكراه , فبعد ازالة هذا العائق , تترك للإنسان حرية الاختيار , هل يدخل في الإسلام مقتنعا , أم يبقى على دينه كما يريد , وله الحماية والكرامة والإعانة , والمساواة والعدل , فأين الدعشنة في هذا …؟!!!

الإساءة والازدراء لمفهوم حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية , فقد جاء نتيجة قصور المنظومات القانونية في دول العالم الإسلامية عن تحقيق المفهوم كما يريده الإسلام في ثقافته للمجتمع .
فبعض المنظومات القانونية في بعض البلاد الإسلامية صادمت المفهوم العام للثقافة الإسلامية في هذا المصطلح , وبعض المنظومات الأخرى كانت عاجزة عن إدراك المفهوم بكليته في الثقافة الإسلامية .

فعلى سبيل المثال : النسل للبشرية جمعاء , من أولى أولويات الثقافة الإسلامية كحق إنساني عام عالمي , والحفاظ عليه في بيئة نقية وسط أسرة متماسكة تتكفل بالحفاظ على الطفل ورعايته وحفظ كرامته الحالية والمستقبلية كإنسان , هو حق إنساني عالمي , يجب تحقيقه , وحقيقة حفظ النسل , هو حق متقدم على حفظ الطفل قبل قدومه .
فمن حق الطفل أن يجد أبوين اجتمعا في أسرة , تحفظ له نسبه , وتحفظ له سمعته , وتساعد على تكوين شخصيته المستقبلية بدون أي شروخ نفسية , فمنعت الثقافة الإسلامية الزنا , واعتبرته اعتداء على هذا الحق الإنساني الشريف , واعتبرته اعتداء على حق الطفل بحد ذاته المستقبلي في حفظ نسبه , بينما صادمت بعض القوانين هذا المفهوم , وانصاعت للمفهوم المستورد الخارجي والتي اعتبرت أن الزنا حق من حقوق الإنسان , ولكل طرف الحق بممارسة حياته الجنسية وفق ما يرغب , فقفزت من حق الإنسان الطبيعي في النشوء في أسرة متماسكة , إلى مسألة حق الطفولة ورعايته عندما يجيء من زنا أو غيره .
وهي بذلك التفت إلى الثمرة من الشجرة بدون غرس الشجرة وسقايتها بماء النقاء والعفة , وليعيش هذا الطفل طيلة حياته وسط مستنقع عفن , مع العلم أن حقوق هذا الطفل في الشرع الاسلامي تفوق الوصف , لا يمكن حصرها في صفحة أو صفحتين .

بينما في بعض القوانين الأخرى في بعض الدول الإسلامية , جعلت المرأة مجرد سلعة في بيتها , لا رأي ولا مشورة ولا حق , هذه القوانين أخذت القشور من ( حقوق الانسان ) في الثقافة الإسلامية , وتركت الجوهر , فحثّت على تكوين أسرة , ولكنها فرّطت في حق المرأة في أسرتها ودورها في استقرار هذه الأسرة, فكانت قاصرة عن مفهوم حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية بشكل عام .

هذا القصور في شقيه الأول والثاني , أنتج قصور في العقل الجمعي المسلم المعاصر , ووضعه موضع صراع عنيف مع مفهوم ( حقوق الإنسان ) في منظومات فكرية مستوردة , مما أوجد عنده حالة من عدم الاستقرار , ووضعه موضع الشك من منظومته الثقافية بشكل عام , ووقع ضحية بين مفهومين متضادين , مفهوم دعشنة هذا الفكر أو ترك هذا الفكر لمنظومة فكرية خارجية تهندّس له منظومته الفكرية الإسلامية .

 

– من أين جاء هذا القصور والانحراف بالمفهوم العام ..؟؟؟

هذا القصور والانحراف لمفاهيم الثقافة الإسلامية العالمية , جاء من طرفين : متحامل على الموروث الثقافي العام للثقافة الإسلامية نتيجة تأثره بمنظومات فكرية خارجية متحاملة على هذا الموروث , و متطفل متسلق على هذا التراث الثقافي , لا يعرف عنه إلا من خلال منظور منظومة فكرية ثقافية خارجية تطفل عليها أيضا , بدون وعي ولا إدراك منه للمنظومتين .

كلا الطرفين منهزمون ثقافيا وفكريا , ومنكسروا الذات , ومنكروا الانجاز , ومتسلقين على حائط منظومات فكرية لا يمتون لها بأي صلة , لا هم عرفوا ثقافتهم الأصيلة , ولا هم كسروا ثقافتهم الدخيلة .

نظروا الى ثقافتهم الفكرية نظرة دونية مسبقا , وقرروا أن هذه المنظومة الفكرية الثقافية قد صادرت حريتهم , ووضعت عليهم الكثير من الأغلال , من خلال : علاقتهم مع مجتمعهم الذي أصبح غريبا عليهم , علاقتهم مع منظومات أخلاقية أصبحت عائقا أمامهم وتحد من رغباتهم الذاتية , علاقتهم مع منظومة الانجاز بشكل عام في مجتمعهم .

انفتحوا على منظومات فكرية ثقافية خارجية بشكل فوضوي , انطلقوا فيها دون أي منهجية واضحة , تحيّزوا إليها بدون وعي وإدراك , وانبهروا بتداعياتها, منكسرين تحت راياتها رغما عنهم , كأنهم صم بكم لا يسمعون .

وضعوا أنفسهم وما يحملون من ازدواجية المفاهيم العامة , موضع الانتقاص الذاتي المستمر , وشعورهم بالدونية الفكرية والثقافية عن غيرهم من متبعي منظومات فكرية أخرى , مما أثر سلبا على احترامهم لذاتهم الفكري , واحترامهم واعتزازهم بمنظومتهم الفكرية الأصيلة , مما أدخلهم في قناعة تامة أن منظومتهم الفكرية الأصيلة فاشلة , والتي بدورها لعبت دورا محوريا في إفشالهم , من باب الإسقاط في علم النفس , وبالتالي يجب العمل على التخلص من هذه المنظومة الفكرية التي أتعبت عقولهم وأثقلت كاهلهم , وعملت على تكريس دونيتهم الفكرية الثقافية كما يعتقدون .

وكوّنوا مجتمع فكري منهزم , منكر لذاته , منكر لأمته الفكرية , وكوّنوا بيئة ذل وانكسار فكري ثقافي , وأقنعوا أنفسهم أنهم لا يستطيعون الخروج من هذه البيئة الفكرية الثقافية الانهزامية الذليلة .

فوطّنوا أنفسهم على الانهزام الفكري الثقافي , وامتهنوا المقدسات الفكرية الثقافية , وانتهكوا المحرمات الفكرية الثقافية , وتقبلوا الهزيمة بكل أنواعها , فرفضوا أي مسؤولية قيادية في المنظومة الفكرية الثقافية ولو جزئيا , وتهربوا من أي أمر له مسؤولية وتبعات في هذه المنظومة الفكرية , هربا من أي تبعات قد تقع على عاتقهم , لانهزامهم المتوطن في فكرهم الثقافي .

هذا المجتمع الفكري الفاشل الذي كوّنوه , وضع نفسه حكما على المنظومة الفكرية الثقافية الإسلامية العالمية , ما وافق هواهم فهو المقبول , وما خرج عن منظومتهم الفاشلة , هو فكر داعشي يجب استئصاله .

انتهي من هذا الجزء ..ونلتقي في الجزء الثاني إن شاء الله والذي يدور حول ( المنظومة الفكرية الثقافية الإسلامية وإشكالية الحداثة الليبرالية كمنظومة فكرية ثقافية ) .