بقلم: أ. د. خليل الرفوع
لم يكن الأردن معبرا للحضارات أو بوابة مفتوحة للعابرين بل كانت مقرا حقيقيا لنشوء الحضارات واستقرارها وامتدادها ورقيِّها، نعم هي جزء طبيعي جغرافي تاريخي من بلاد الشام أو قلْ من بلاد العرب ، فالأدوميون والمؤابيون والعمونيون والأنباط والروم والغساسنة بنَوا حضاراتهم في أجزاء من الأردن ، والقبائل اليمانية التي انتقلت إليه قبل الإسلام وبعده أسهمت في الحضارة العربية الإسلامية إلى يومنا هذا ، فبترا وبصيرا وعمان وجرش وجدارا وأربيلا وبيت رأس وأيلة لم تكن على هامش التاريخ وحواشي الجغرافيا ، بل كانت مشاركةً في نشأة الحضارات وصيرورتها ، ولقد كان لقرب هذه الحواضر جميعا من دمشق عاصمة الدولة العربية الأموية العالمية دور مؤسس في تشكيل مقومات الدولة أو الخلافة ، وهل كان لبني أمية القرشيين المضربين العدنانيين أن ينشئوا دولةً لولا مساندة القبائل اليمانية القحطانية في بلاد الشام وفي قلبها قبائل الديار الأردنية آنذاك ، وأما الدولة العباسية فللحُميمة الدورُ التاريخي في بذرتها الأولى، إننا بحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ كي نضع الأحداث في مساراتها والإنجازات في مداراتها، ولا نبقى نكرر مقولة رُفِعت حديثا بأن الأردن (بوابة الفتح) ، وقد تُنُوْسِيَ أنها مسرح الفتوحات وليست بابةً مفتوحةً لعبور من يشاء ، وهي كذلك موطن الحضارات من قبلُ ومن بعدُ ، ولم تتقطع فيها أسباب الحضارة، وهي التي كانت ملتقى حضارات بلاد الرافدين ومصر والجزيرة العربية والأوروبية ، ولا ندري هل كانت كذلك بوابة الأنبياء والعلماء ؟! أم أنها كانت موقعا استراتيجيا مركزيا لنشوء حضارات عريقة وقوًى تاريخة لم تزحزحْ عن القيادة الحضارية بشطريها الفكري والمادي حتى يعقبها غيرها، إن أشهر معركتين في تاريخ الأرض الأردنية – وهما مؤتة واليرموك – لا يجعل منها بوابة للعبور بل كانت صانعة لفنون النصر والشهادة وبناء الدولة بانتفاضة قبائلها على الدولة الرومانية وأتباعهم ملوك بني غسان سياسةً وإدارة وديانةً، ودعمهم آنذاك للفاتحين العرب انطلاقًا من رابطين متينين، هما : العِرق واللغة مغلفان بالوجدان القومي وإن اختلفوا معهم في الدين بدءًا، فكان نتيجة ذلك التحرر من الاحتلال الروماني وإخراجه من بلاد الشام كلها.
إنّ تأسيس الدولة الأردنية الحديثة عام ١٩٢١م، كان حلقة من سلسلة حضارية متواصلة ممتدة للأردنيين لم تتوقف، فلقد كان ثمة وعي ديني وسياسي وقومي تمخض عنه وقوفٌ مع الشرعية الدينية والجرأة الثورية التي يمثلها الشريف الحسين بن علي والتوافق على بناء الدولة بدلا من التشتت القبلي الجهوي الذي أنتج حكومات أردنية متنازعة قبيل التأسيس، وأما الوعي القومي فلقد كان حالة تاريخية قبلية عند الأردنيين في أواخر الدولة العثمانية تمثل في توالي الحركات التمردية الثائرة على سياسات التتريك الاتحادي والتجنيد والضرائب، فكان الأردنيون مشكِّلًا رئيسيا في وقوفهم مع إخوتهم العرب وخاصة السوريين في مطلع القرن العشرين .
وكانت الطفيلة عبر امتدادها التاريخي جزءا فاعلا من بلاد الشام، وكان لها بحكم الوعي القومي والترابط الجغرافي العروبي حراكٌ مؤثر في الثورة العربية الكبرى وانتصاراتها المتلاحقة وخاصة معركة الطفيلة الفاصلة في حدّ الدقيق ، كما أنها في حروب الوطن والأمة قدمت الشهداء ذودًا عن الأردن وفلسطين والأمة، بيدَ أن لبعدها المكاني عن العاصمة عمان أثرا سلبيا في بطء السيرورة التنموية فيها وتأخرها على الرغم من كثرة الموارد الطبيعية والمواقع التاريخية السياحية.
ولقد كان قرار إنشاء جامعة الطفيلة التقنية عام ٢٠٠٥م مشروعا تنمويا شاملا في محافظة الطفيلة، ولعله أول مشروع نهضوي علمي اقتصادي عام منذ تأسيس الدولة ، نعم كان هناك مشاريع اقتصادية كالإسمتت والفوسفات، وسياحية كضانا وعفرا لكنها كانت محدودة التأثير والتغيير ، فلم تك نتائجها مؤثرةً في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما رأيناه واقعا ملموسا في دور جامعة الطفيلة الطليعي في بعث الوعي العلمي الثقافي، وتنشيط الحراك التجاري ، ونعلم أن العلم والتجارة رافدان مهمان في مجرى الحياة المجتمعية.
إن وجود طلاب من داخل الأردن وخارجه في محافظة الطفيلة محرك اقتصادي مهم للتجارة والعمران والمواصلات والسياحة والتلاقح الثقافي مع أبناء المجتمع المحلي طلابًا وأساتذة وموظفين ومواطنين، كما أن الابتعاث المتواصل والتعييات للأساتذة والموظفين سواء أكانوا من أبناء الطفيلة أم من مناطق أخرى أسهمت في متانة تلكم المناشط الاقتصادية والامتزاجات الثقافية ، ولعل حرص رئيسها الحالي الأستاذ الدكتور محمد خير الحوراني على تفعيل المقولة الآتية ( الجامعة في قلب الطفيلة، والطفيلة في قلب الجامعة) يلخص عمق الرؤية الواقعية والمستقبلية لإدارة لا تغلق بصيرتها عن مطالب المجتمع وآماله من الجامعة ، فالتعلم والبحث العلمي وتنمية المجتمع المحلي سبل أية جامعة تسعى للنجاح الحقيقي للمساهمة من خلال هذه العناوين الدالة الفاعلة المتكاملة لتطوير المجتمع المحيط بها ، وتنميته معرفيا واقتصاديا تزامنا مع الشراكة في البناء الحضاري العام للدولة مع الجامعات الأخرى الحكومية والخاصة كافةً، وقد تجاوز عددُها تسعًا وعشرين جامعةً.
ولا بد أن يُسجل أن أبناء الطفيلة ومحبيها يقدرون للجامعة إدارةً وأساتذة وموظفين وطلابا دورهم في إنجازات علمية متوالية مقدّرة كان آخرها الفوز بالمركز الثاني في مسابقة الفورمولا العالمية ، ولعل خبرَ خلوِّ تقرير ديوان المحاسبة الأخير من أية مخالفات مالية لجامعة الطفيلة التقنية – وكذلك العام الماضي – يدل على أن قرارات الجامعة الإدارية والمالية تصدر عن أيد وطنية أكاديمية خالصة الانتماء ينتظر منها إنجازات محلية، ونجاحات على المستويينِ الوطني والدولي، على الرغم من ظروفها المالية القاسية وقلة حصتها في موازنة الدولة، وبمنظومتها الإدارية والأكاديمية تستطيع توفير بيئة تعزز الابتكار بالبحث العلمي التطبيقي وتطوير معطيات التعلم؛ لتؤهل خريجين مؤهلين للمنافسة وتؤسس لتنمية ثقافية اقتصادية دائمة فيها وفي المجتمع المحلي ؛ ففي ذكرى مئوية تأسيس الدولة الأردنية تتموقع جامعة الطفيلة على ناصية العيص تتفيأ ظلال عاصمة الجبال لتحتضن آمالا مؤملة لأبنائها لتكونَ أكثر تشابكا مع جميع مناطق المحافظة ولتستمرَ في قيادة النهضة المعرفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 1
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة