بقلم :المحامي والمستشار القانوني بشار محمد البطوش
في الوقت الذي يتجرع فيه أهلنا في غزة وباقي مدن فلسطين شتى أشكال الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية من الكيان المحتل، جعلتهم بلا مأوئ وطعام ومياه شرب، وسط إنحياز غربي لهذا العدوان، إنتشرت أخبار عن قيام أشخاص بتصدير منتجات زراعية من المملكة الأردنية الهاشمية إلى الكيان المحتل، وقد عقبت جهات حكومية عليها، بوجود عقود بين تجار أو سماسرة تجيز ذلك، لكنها تمنت عليهم الشعور مع أهلنا هناك، والتوقف عن تلك الممارسات.
ولكن يبقى السؤال، هل يوجد أدوات تشريعية يمكن من خلالها إتخاذ موقف حكومي سيادي لمنع تلك الممارسات سواء مع الكيان المحتل، أو مع أي جهة أخرى؟
في معرض الإجابة على هذا التساؤل، سوف أعرض المراحل التي مرت بها علاقة الدولة الأردنية مع الكيان المحتل بالجانب المتعلق بالمقاطعة وحظر التعامل بينهما، على النحو التالي:
المرحلة الأولى: قبل معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية
المرحلة الثانية: إبرام معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية
المرحلة الثالثة: بعد معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية
وتالياً، أعرض نبذة موجزة عن كل مرحلة.
المرحلة الأولى: قبل معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية
على أثر الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وما نتج عنه من حروب وحالة عداء مع الدول العربية، بما كان يعرف بـ (الصراع العربي – الإسرائيلي)؛ عًقدت مؤتمرات وإجتماعات على مستوى جامعة الدول العربية، كان محصولها فرض حظر تعامل ومقاطعة مع الكيان المحتل، وشرعت كل دولة بإصدار تشريعاتها الوطنية لتنفيذ تلك المقررات، فصدر في المملكة ما يلي:
قانون منع بيع العقار للعدو رقم 30 لسنة 1973
القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل رقم 10 لسنة 1958
قانون منع الإتجار مع إسرائيل رقم 66 لسنة 1953
هذا، وقد نص قانون منع بيع العقار للعدو، بأنه يعتبر عدواً كل شخص يحمل الجنسية الإسرائيلية أو يقيم في إسرائيل أو يعمل لحسابها، ويعتبر باطلاً كل بيع تم له، وتؤول ملكية العقار المبيع للخزينة، ويعاقب الجاني بالإعدام، ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة، وإذا كان الجاني شخصاً معنوياً يلغى تسجيله، ويعاقب الشخص الذي إرتكب الجريمة بإسمه بالإعدام.
في حين أن قانون منع الإتجار مع إسرائيل، ومن بعده القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل، حظر استيراد أو تصدير أو بيع أو عرض أو حيازة بضائع إسرائيلية ولو على سبيل التبرع أو البدل أو تجارة الترانزيت، ومنع أي إتفاق تجاري أو مالي مع أي شخص مقيم بإسرائيل أو ينتمي إليها أو يعمل لحسابها ولو كان خارجها، وأجازا إعتبار الشركات الأردنية والأجنبية التي لها مصالح أو فروع أو توكيلات بإسرائيل محظوراً التعامل معها، وعاقب الجاني بالأشغال الشاقة من ثلاث إلى عشر سنوات والغرامة والمصادرة، مع نشر الحكم بالوسط التجاري، وكذلك، صرف مكافأت مالية لمن يساهم بكشف الجريمة.
المرحلة الثانية: إبرام معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية
بتاريخ 26/10/1994 وقعت معاهدة سلام بين المملكة الأردنية الهاشمية والكيان المحتل المعروفة إختصاراً بـ (إتفاقية وادي عربه) نسبة للمكان الذي وقعت به، وذلك بحضور جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه، وإسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية بذلك الوقت، والرئيس الأمريكي بل كلينتون آنذلك، والمرحوم ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية، وحشد دولي كبير.
وقد صادق البرلمان الأردني على هذه المعاهدة، بموجب قانون تصديق معاهدة السلام بين حكومة المملكة الأردنية الهاشمية وحكومة دولة اسرائيل رقم 14 لسنة 1994.
حيث نصت ديباجة المعاهدة، والمادتين 1 و2، على إزالة حالة العداء، وإقامة السلام بين الطرفين، وكذلك، العيش بآمان ضمن حدود معترف بها بينهما.
وبينت المادة 7، الرغبة المتبادلة بالتعاون الإقتصادي، ولتحقيق ذلك، يتخذ كل طرف ما يضمن إنسياب البضائع والخدمات بينهما، وإزالة أي قيود أو معيقات تعترض ذلك.
وأشارت المادة 26، إلى وجوب قيام أطراف المعاهدة باعتماد التشريعات الضرورية لتنفيذها على الصعيد الداخلي لكل منهما.
المرحلة الثالثة: بعد معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية
في عام 1995، أقر البرلمان الأردني قانون (المقاطعة الإقتصادية وحظر التعامل مع العدو) رقم 11 لسنة 1995، والذي تضمن أحكام هامة، منها:
أولاً: منح مجلس الوزراء الصلاحيات التالية:
إعتبار أي دولة أو هيئة أو شخص جهة معادية للمملكة يحظر التعامل معها، على الرغم مما ورد بأي تشريع آخر، وللمجلس أن يحدد بتعليمات يصدرها الأمور المحظور التعامل بها مع تلك الجهات، والمواد التي يشملها الحظر، والقيود والشروط المفروضة على ذلك التعامل، والإستثناءات من الحظر.
إعلان مقاطعة كلية أو جزئية لأي دولة أو جهة أو شخص (دون اعتباره جهة معادية)، ويحدد مدى هذه المقاطعة والأمور والمواد التي تشملها، والشروط والقيود المتعلقة بها والإستثناءات منها بتعليمات يصدرها المجلس.
ثانياً: لا يجوز لأي أردني نقل ملكية أي عقار، أو إنشاء أي حق تصرف أو انتفاع أو إرتفاق عليه، سواء بعقود رسمية أو عرفية أو بوكالة، بخصوص العقارات المذكورة بالمادة 3/2 من معاهدة السلام إلا لشخص أردني، وإذا كان المشتري غير أردني يشترط موافقة مجلس الوزراء.
ثالثاً: يعاقب كل من يخالف أحكام القانون بالأشغال المؤقتة أو بغرامة لا تقل عن ألف ولا تزيد على عشرة آلاف دينار، أو بكلتا العقوبتين، ومصادرة المواد المضبوطة في الجريمة.
رابعاً: إلغاء القوانين التالية والتعديلات التي طرات عليها:-
قانون منع بيع العقار للعدو رقم 30 لسنة 1973
القانون الموحد لمقاطعة اسرائيل رقم 10 لسنة 1958
قانون منع الاتجار مع اسرائيل رقم 66 لسنة 1953
يلاحظ بأن القانون لم يذكر الكيان المحتل (إسرائيل) صراحة، ولكن المشرع كان يعلم بوجود معاهدة السلام وقانون تصديقها، وراعى إمكانية خرقها من قبله، والتاريخ برهن على ذلك، فأجاز فرض مقاطعة كلية أو جزئية معه دون وصفه بالعدو بسبب المعاهدة المتضمنة إنهاء حالة العداء معه.
وهذا ينطبق على أي كيانات داخله، فقد تتجنب حكومة الإحتلال منعهم من القيام بأعمال عدائية تمس الوحدة الوطنية والسيادة الأردنية، فيحق للمملكة حينها حظر التعامل أو مقاطعة أي منهم دون شمول الكيان المحتل بالقرار، أو إعتباره جهة معادية، وذلك على الرغم مما ورد بأي تشريع آخر.
فالنص القانوني جاء مطلقاً ويجري على إطلاقه، طالما لم يرد ما يقيده صراحةً أو دلالةً، أو إستثناء الكيان المحتل أو أي كيانات لديه من تطبيق أحكامه، فالمشرع لا يقول لغواً، وإعمال النص أولى من إهماله وفقاً للمادتين 216 و218 من القانون المدني، وحسن فعل المشرع بهذه السياسة التشريعية الحذرة.
عوداً على بدء بخصوص التجارة الزراعية البينية بين المملكة والكيان المحتل من قبل تجار أو سماسرة في ظل العدوان السافر على غزة وغيرها من المدن الفلسطينية، وإمكانية مواجهة ذلك؟
إن ممارسة الإستيراد والتصدير بشكل عام يتطلب صدور رخص من الجهات المختصة وفقاً للتشريعات النافذة، فإذا ألغت تلك الجهات الرخص دون مبرر قانوني؛ فمن الممكن أن تتعرض للمسائلة القانونية أمام القضاء، والمطالبة بالتعويض من قبل أصحاب الرخص عن الأضرار الناتجة عن ذلك.
وصرح وزير الزراعة لإذاعة حسنى بتاريخ 3/1/2024 (إن أي وقف للتصدير هو وقف لكافة الصادرات وعبر كافة الحدود لتتجنب الوزارة رفع قضايا عليها من التجار وأصحاب العقود، وإن الوزارة تملك أخذ قرار لحماية منتج معين أو مخزون منخفض، وهذا يتوجب أن يكون لكافة الدول؛ حتى لا نتابع قانونياً). وصرح كذلك على قناة المملكة بتاريخ 31/12/2023 (لا توجد آلية قانونية تمنع تجار الخضار من التصدير إلى إسرائيل، لكن نقول لهم في ظل هذه الظروف: “استحوا على حالكم شوي”).
ولكن، بحال وجدت المملكة بأن هناك ممارسات تمس مصالحها العليا مصدرها الكيان المحتل، أو كيانات تعمل لحسابه، فلها تفّعيل قانون المقاطعة الإقتصادية وحظر التعامل مع العدو رقم 11 لسنة 1995، لأن درء المضار عن الوطن أولى من كسب المنافع لبعض التجار والسماسرة وفقاً للمادة 64 من القانون المدني، فالتشريعات الوطنية لا تكرس حلولاً قانونية فقط، بل إنها أداة سياسية مؤثرة.
فوجود معاهدة سلام مع الكيان المحتل قبل 30 سنة؛ لا يمنع لاحقاً من منع أي نشاط تجاري إذا وجدت مبررات لذلك، والتي لا تقتصر على قيامه بأعمال حربية ضد المملكة أو التهجير كما ذكر جلالة الملك، بل تشمل أي ممارسات ضد مواقفها إتجاه القضية الفلسطينية، أو وجود صفقات وأعمال سمسرة ينتج عنها بلبلة داخلية، نتيجة الرفض الشعبي لها، مما يعرض السلم المجتمعي الأردني للخطر.
وكذلك، رداً على رفض إدخال مساعدات لقطاع غزة، وتزويد المستشفيات الميدانية بإحتياجاتها، مما أجبر القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي) تنفيذ عمليات إنزال جوي بالغة الخطورة لإيصالها.
إلا أنه ينبغي أن يسبق قرار الحظر أو المقاطعة؛ موازنة بين جميع الخيارات السياسية والقانونية المتاحة، وتقييم شامل للآثار المترتبة عليها بما يحفظ الأمن الوطني والمصالح العليا للمملكة، ودورها تجاه فلسطين، وكذلك علاقتها مع دول داعمة وصديقة لها، وهي بذات الوقت داعمة للكيان المحتل، والإبقاء على حيز للعمل السياسي بظل التأزيم الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، إضافة لتوقع إجراءات معاكسة رداً على الموقف الأردني، سواء من قبل الكيان المحتل أو الدول المنحازة له.
فالمملكة مرتبطة مع الكيان المحتل بإتفاقيات تجارية وأمنية، وإتفاقية غاز التي وإن كانت بين شركات لكنه يملك التأثير عليها، وإذا تم ذلك فقد يترتب عليه اللجوء للتحكيم وتعويضات باهضة للمملكة.
لهذا، فالنظرة الوطنية بهذا الخصوص، يجب أن تكون قائمة على أساس المكاسب والخسائر المتحققة، وأن الضرر العام (الأشد) يدفع عن المملكة بالضرر الخاص (الأخف) الذي يمكن أن يصيب فئة من المزارعين أو المواطنين وفقاً للمادة 65 من القانون المدني، بحيث لا يكون الهدف فقط من أي قرار حكومي تفريغ الإحتقان الشعبي، على حساب المصالح والمواقف السياسية للدولة الأردنية.
بالمقابل، فمن الأهمية بمكان تفكير الدولة الأردنية بمراجعة علاقاتها الإقتصادية والأمنية والتعاونية مع الكيان المحتل، والدول المنحازة له على ضوء المستجدات بالمنطقة، وفتح مجالات وبدائل مع دول أخرى؛ حتى لا تكون الخيارات أمامها ضيقة بحال قررت الحظر أو المقاطعة وإنعكاس ذلك على علاقتها ببعض الدول، وبالنتيجة تأثر مصالحها، فيجب العمل على بناء الإقتصاد الوطني والتدرج بالإعتماد على الذات؛ بما يعزز صلابة الجبهة الداخلية، حتى لا يترك المجال لكيان متربص يحاول النيل منها بأول فرصة تتاح له، مستغلاً الأحداث المحيطة، والظروف الإقتصادية التي يمر بها الوطن.
وإذا رغب الكيان المحتل بتذكير المملكة بمعاهدة السلام، فالرد عليه، بأن مصالح المملكة وشعبها أولى بالإعتبار من مصالح المستوطنين وتجار وسماسرة تعمل لحاسبه، وكذلك، فإن الإلتزامات الواردة بالمعاهدة لا تمس الحق الطبيعي للمملكة بالدفاع عن أمنها ومصالحها وشعبها بموجب ميثاق الأمم المتحدة وفقاً للمادتين 4/2 و25/1 بالمعاهدة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فلا يجوز للكيان المحتل إنكار حق المملكة بحظر أو مقاطعة تصدير أية منتجات له، بينما يمارس هو ذات الحق، ويؤثر عليها بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالمثال يتضح المقال:
خلال عام 2020 منع الإحتلال تصدير المنتجات الزراعية الفلسطينية إلى الأردن عبر معبر الكرامة، وكافة الموانئ والمعابر الحدودية، لتصل إلى دول العالم.
خلال عام 2023 منع الإحتلال تصدير المنتجات الصناعية والزراعية من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، والداخل الفلسطيني المحتل، وكذلك الخارج عبر معبر كرم أبو سالم.
بل لنا أن نذكره بإنتهاكه لمعاهدة السلام المرة تلوه الآخرى، من خلال الشواهد التالية:
تضمنت المادة 2 بالمعاهدة، وجوب تطبيق ميثاق الأمم المتحدة ومبادىء القانون الدولي على طرفيها والتي تحكم العلاقات بين الدول وقت السلم، وأن تحركات السكان القسرية ضمن مناطق نفوذهما بشكل يؤثر سلباً على الطرفين غير مسموح به، بما في ذلك الإجراءات أحادية الجانب، لكن الكيان المحتل إنتهك ذلك عام 2019 بإعلان ضم مناطق بالضفة الغربية وغور الأردن إليه، وهذا سيؤدي لحركة قسرية للسكان الفلسطينيين بتلك المناطق للمملكة مما يهدد الأمن الوطني، والآمال بإنشاء دولة فلسطينية على تلك المناطق وفق حل الدولتين والقرارات الدولية، كونها ستصبح بعد الضم أراضٍ إسرائيلية محاذية للأردن، ويستمر الإحتلال بتغيير معالمها وبناء المستوطنات عليها.
تضمنت المادة 4 بالمعاهدة، الإمتناع عن التهديد بالقوة واستعمالها وأي أعمال عدائية تضر بأمن المملكة، بينما نفذت المخابرات الإسرائيلية (الموساد) عام 1997 محاولة إغتيال على الأراضي الأردنية لخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والذي يحمل الجنسية الأردنية. ورغم هذا الإنتهاك، حقق جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه مكاسب سياسية تحت طائلة إلغاء المعاهدة وإعدام عملاء الموساد بالعملية: منها إعتذار نتنياهو، وإجباره على تسليم الترياق الخاص للسم المستخدم بالمحاولة، والإفراج عن الشيخ الشهيد أحمد ياسين زعيم حركة حماس، ومعتقلين أردنيين وفلسطينين لدى الإحتلال. وثمة إنتهاك آخر عام 2017 تمثل بقتل حارس بسفارة إسرائيل بعمان أردنيين واستقبال نتنياهو له بحفاوة وعدم محاكمته، ومحاولة اقتحام الحدود الأردنية عام 2011 من قبل مستوطنين، وكذلك قتل ضابط إسرائيلي القاضي الأردني الشهيد رائد زعيتر عام 2014.
تضمنت المادة 9 بالمعاهدة، والإتفاق اللاحق الموقع عام 2015 حول المسجد الأقصى، إحترام الكيان المحتل الدور الخاص للمملكة كما ورد بمعاهدة السلام، والدور التاريخي لجلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله بالأماكن المقدسة بالقدس (الوصاية الهاشمية على المقدسات)، ويتمثل بأربعة مجالات: 1- إدارة المسجد الأقصى ورعايته وإعماره، 2- المسؤولية عن توثيق وإدارة وصيانة الأوقاف الإسلامية بالقدس، 3- القضاء الشرعي بالقدس بأكمله، 4- تنظيم عمل الكنائس العربية والكنيسة الأرثوذكسية بالقدس، لكن الإحتلال ينتهك ذلك بإستمرار من خلال إقتحامات وزرائه وقطعان المستوطنين لتلك الأماكن، والإعتداءات المتكررة على موظفي الأوقاف، وتركيب بوابات إلكترونية، وإغلاق المسجد الأقصى ومنع الصلاة فيه، والحفريات أسفل الحرم القدسي، وصولاً للمخططات الساعية لتقسيمه زمانياً ومكانياً، وثمة إنتهاك آخر تمثل باعترض دخول السفير الأردني بتل أبيب المسجد الأقصى، وآخرها عام 2021 إختلاق عراقيل أمنية أدت لإلغاء زيارة سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله حفظه الله للأماكن المقدسة بالقدس والصلاة فيها.
تضمنت المادة 11 بالمعاهدة، الإمتناع عن بث التصريحات والدعاية المعادية للمملكة من أي تنظيم أو فرد بالكيان المحتل. إلا أن تصريحات الساسة بالإحتلال طافحة بإنتهاك ذلك، ومنها قول أحد القادة الأمنيين (حدود إسرائيل مع سوريا آمنه كما هي حدود إسرائيل مع العراق)، تكريساً لنظرية إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، وتأكيد لما قاله نتنياهو بكتابه مكان تحت الشمس (إن إسرائيل الحالية تصل مساحتها 15% من أرض إسرائيل الكبرى)، وكذلك ما نشره وزير المالية الإسرئيلي في باريس لصورة مع عبارة (خارطة أرض إسرائيل) تضم الأردن، وإحيائه لمطالب إسرائيلية بإقامة وعد بلفور على كامل الأراضي الأردنية، إضافة لتصريحات اليمين المتطرف للتهجير والوطن البديل وحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وتصريح نائب بالكنيست (عملياً هناك دولة فلسطينية قائمة وتوجد بالأردن)، وقول شارون عام 2001 لصحيفة ألمانية (شرقي الأردن جزء من أرض إسرائيل)، وقبل أيام تصريح أيال زيسرمؤرخ إسرائيلي (الأردن مملكة مصطنعة مقامة على أراضينا، فماذا بعد الأردن؟)، وتصريحات أخرى معادية.
كذلك تضمنت المادة 11 بالمعاهدة، إلغاء الجوانب المعادية والتعصب والتمييز بالمطبوعات الحكومية لدى الطرفين، بينما لا تزال العدائية ضد العرب والمسلمين طافحة بمناهج التعليم لدى الإحتلال بالإعتماد على تزوير الحقائق والتاريخ بما يضمن إنشاء جيل مشحون بالكراهية والقتل وحب التملك ومن ذلك: أرض فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، والعرب هم قتلة اليهود، وددت لو أن أفعل شئياً فأقبض على هذا العربي وببساطة أخنقه وأقتله، وأن محمداً (عليه الصلاة والسلام) قاد حرب إبادة ضد جميع الشعوب والقبائل التي لم تتقبل تعاليمه، وعبارات أخرى.
تضمنت المادتين 15 و23 بالمعاهدة، التفاوض بين أطرافها لإفتتاح ممر جوي بينهما، وعلى الترتيبات اللازمة لتحقيق تنمية مشتركة لمدينة العقبة وإيلات بمجالات منها التعاون بمجال الطيران، لكن الكيان المحتل إنتهك ذلك بإنشاء مطار رامون الإسرائيلي بإيلات دون مراعاة الطرف الأردني.
ورغم ذلك، تملك المملكة بمواجهة تلك الإنتهاكات وغيرها؛ تفعيل المادة 29 بالمعاهدة سواء باللجوء إلى التفاوض أو التوفيق أو التحكيم.
بعد عرض المراحل الثلاث؛ وما تضمنته من أحداث، وما تملكه الحكومة الأردنية من خيارات، فما هو الأثر القانوني المترتب على ذلك؟
إذا مارست الحكومة الأردنية صلاحياتها وفقاً لقانون المقاطعة الإقتصادية وحظر التعامل مع العدو رقم 11 لسنة 1995، فما يصدر عنها من قرارات حظر أو مقاطعة بحق أي دولة أو هيئة أو شخص، تعتبر أفعالاً غير متوقعة ولا يمكن دفعها، وبهذا فإنها تأخذ حكم (القوة القاهرة) التي تشكلت بفعل الحكومة.
وهنا ينظر بأثر تلك القرارات على العقود والإتفاقيات الثنائية، ومنها تصدير أي منتجات من المملكة إلى الكيان المحتل، فإذا ترتب على ذلك أن تنفيذ الإلتزام أصبح مستحيلاً كلياً، انقضى معه الإلتزام المقابل له وانفسخ العقد من تلقاء نفسه، وأما إذا كانت الإستحالة جزئية؛ انقضى ما يقابل الجزء المستحيل، وبالحالتين، يجوز للدائن فسخ العقد بشرط علم المدين، وفقاً للمادة 247 من القانون المدني.
وبتحقق أي شكل من أشكال القوة القاهرة؛ فإن ذلك يعفي المتعاقد من الضمان، كون الضرر الذي أصاب الطرف الآخر نتج عن سبب أجنبي على التعاقد لا يد له بحدوثه وفقاً للمادة 261 من القانون المدني، ما لم يقض القانون أو الاتفاق بغير ذلك.
وأما إذا كان تأثير ما صدر عن الحكومة من قرارات عامة بالحظر أو المقاطعة، بأن أصبح تنفيذ الإلتزام التعاقدي ليس مستحيلاً، بل مرهقاً للمدين ويهدده بخسارة فادحة لم يكن بالوسع توقعها، فإن ذلك يعتبر بحكم الحوادث الإستثنائية العامة، التي تجيز للمحكمة وتبعاً للظروف، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن ترد الإلتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، وفقاً للمادة 205 من القانون المدني.
ختاماً، في حال رغب أي شخص بمقاضاة الحكومة والطعن بالقرارات الإدارية التي أصدرتها وفقاً لقانون المقاطعة الإقتصادية وحظر التعامل مع العدو سواء بالحظر أو المقاطعة.
فإنني أرى بأن القضاء الإداري – ومتى ما كان الطاعن صاحب مصلحة مباشرة، وإستوفى القرار الطعين الشكليات والإجراءات القانونية اللازمة – فإن المحكمة برأي الشخصي، سوف تقرر رد الطعن لعدم الإختصاص بنظره، كون ما صدر عن الحكومة يندرج ضمن أعمال السيادة، أي بصفتها سلطة حكم لا سلطة إدارة، وهذا يخرج عن رقابة القضاء الإداري وفقاً للمادة 5/د من قانون القضاء الإداري النافذ.
فالمملكة الأردنية الهاشمية بحكم ما لها من سيادة كاملة على أراضيها، والحدود البحرية لها، والمد الجوي الذي يعلوها، فإنها تتمتع بسلطة عامة مطلقة في تقدير موقفها السيادي، وحماية مصالحا الداخلية والخارجية، حسب ما تراه مناسباً لتحقيق المصلحة العامة للدولة بأوسع معانيها، ولا يقيّد هذه السلطة، إلا خلوها من التعسف أو إساءة الإستعمال، وغياب البواعث الشخصية، وهذا ما تواترت عليه أحكام القضاء الإداري الأردني.