بقلم/ يامنة بن راضي
ترسل السماء أنفاسها الدافئة على أهل الأرض جميعا؛ فيستقبلون صباحاتهم الندية بشغف مختلط بأحلام تريد أن تجد لها طريقا وسط زحام الحياة؛ وفي المقابل يستقبل أهل غزة صباحاتهم اليتيمة بمزيد من الدماء والدموع وصمود مبهر أذهل كل شعوب المعمورة وكشف غي منظومة دولية آثمة لطالما ادعت العكس …
وإذا كان الفرح يدغدغ أيام أغلب الأمهات في شتى بقاع الدنيا؛ وهن يحتضنن أولادهن ويشاهدن كيف ينعمون بالحياة والآمان والحماس المتوقد؛ فإنه أبى الا أن يصنع له ثكالى في غزة التي عاث فيها الإحتلال الصهيوني المجرم فسادا في النسل والحرث؛ حيث الأمهات هناك يكابدن الألم يوميا على فلذات أكبادهن الذين رحلوا في قافلة شهداء العدوان الهمجي؛ والآخرون الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها معاقين يجترون ليلا أحلامهم التي بترت هي الأخرى كما بترت أطرافهم ؛ ناهيك عن من تقطعت بهم السبل وولجوا دوامة الحيرة من الباب الواسع بعد أن تفننت العصابات الصهيونية في تدمير حياتهم وإطفاء إشراقتهم ؛ لا ريب أن الأم الفلسطينية الغزاوية اليوم تعد أيقونة الأمهات على هذه البسيطة ترفع لها القبعة إجلالا واحتراما؛ وتجد المنظمات العالمية التي تدعي أنها ترتدي هموم الأمومة وقضاياها في موقف مخجل لعجزها عن إيقاف هذا الاغتيال الفظيع لأمومة الآلاف من نساء غزة ..
في زمن يفوح برائحة النفاق والخذلان حاملا معه مادة الإبادة الجسدية لأهل فلسطين والروحية والإنسانية لمجتمع دولي حاقد ومتواطىء آثر دفن رأسه في الرمال كالنعامة؛ تتحمل الأم في غزة ما لا يطيقه بشر أم ليست كالامهات في أي بطن من بطون الأرض؛ تتحدى بإباء الإستدمار الصهيوني الذي أتى على الأخضر واليابس في كل شبر من قطاع غزة؛ تتحداه بصمودها وصبرها على فقدان أطفالها وأهلها وأحباءها وكأنها تقول له بكل ثقة:” لدينا المزيد من الشهداء خذ ما تشاء لكنك لن تظفر بما تريد فلن نترك أرضنا”؛ تلك الأرض التي حولها بإرهابه الى مقبرة جماعية كبيرة التهمت ومازالت الآلاف من الأطفال والنساء والشباب الأبرياء؛ وهو يدك البيوت والمستشفيات والمدارس والمساجد دكا وكأنه جيوش التتار لا تبقى ولا تذر حين حولت عاصمة الرشيد بغداد الى بحور من الدماء قبل قرون …
“الأم التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها”؛هاهي المقولة التي أطلقها نابليون بونابرت في عصر سابق تتجسد فعليا في وقتنا الراهن على أرض غزة؛ فالأم الغزاوية التي تودع رضيعها وطفلها بنفس راضية بعد أن اختارته العناية الالهية ليكون شهيدا مع الكثير من أقرانه هزت العالم برمته وتهزه بجلدها وصمودها المنقطع النظير وايمانها الكبير بمشيئة الباريء عز وجل ؛ هذا الموقف البطولي النادر أبهر العالم وأرسل له رسالة قوية مفادها أن أهل غزة أصحاب الأرض لن يفرطوا في غزتهم إلى آخر شهيد؛ وأن تقديم القرابين من الشهداء لن يتوقف الى أن تحقق مقاومتهم البطلة نصرا يثلج صدورهم ويبهج قلوبهم المحطمة؛ بعد أن تدحر العدو الغاشم عن ديارهم وسماءهم وبحرهم ومدنهم ومزارعهم …
يقال” إذا صغر العالم كله تبقى الأم كبيرة”؛ والأم في غزة حيث وحشية الاحتلال تمزق الأجساد الطرية لأطفالها في جرائم يندى لها جبين الإنسانية؛ توصف بالكبيرة عندما لقنت هذا العالم المنافق الذي تحركه المصالح و يتعطش للدولار حتى على حساب انتهاك حرمة البراءة وقتلها بدم بارد في بلادها درسا عظيما؛ بتحملها لكل ذلك العذاب لأنها بغزاويتها أرادت أن تشارك أهل عشيرتها من مواطني غزة ولو بتلك الطريقة القاسية والثمن الباهض حياة فلذات أكبادها في جهادهم وكفاحهم وصمودهم من أجل أن تبقى غزة لهم ويبقون هم على أرضها أوفياء؛ حقا لقد صغر هذا العالم على شساعته أمام الأم الفلسطينية الغزاوية الشجاعة وبقيت هي بشموخها تماثل عنان السماء وشمم الجبال ..
أخيرا يقول محمود درويس مخاطبا الاحتلال البغيض:” خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا “؛ وهاهو العدو الجبان يأخذ حصته الضخمة من دماء أطفال غزة؛ عفوا أبطال غزة ولم ينصرف بعد ؛ لكن من المؤكد سيأتي اليوم الذي ستجبره فيه الأمهات الماجدات في فلسطين وغزة صانعات الرجال على الرحيل يجر أذيال خيبته و يبكي عار هزيمته ..ويبقين هن في غزة وفي كل فلسطين يحرسن ورد الشهداء .