حلمي الاسمر
لا أذكر أنني رأيتُ الأردن في حاله هذه منذ ما يقارب العقود الأربعة، إذ يبدو كأنه يعيش أزمة عنقودية، بمعنى أنها متعدّدة الرؤوس والفروع وعلى غير صعيد، إن لم يكن في كل الأصعدة. والأردن ليس فريداً في حالته هذه، فهو نموذج مصغّر لحالة الاستعصاء التي تعيشها بلاد العرب كلها، وبمقدارٍ ما من الاختلاف في هذا الحقل أو ذاك، ويمكن لمن يطرح الأسئلة الكبرى التي تدور في أذهان الأردنيين وتقضّ مضاجعهم أن يسحبها على باقي الساحات العربية، فهو، إن جاز التعبير، عيّنة ممثلة لحالة العرب، وهي حالة يحار فيها الطبيب الأريب، ويتركه النظر فيها مبتئساً لا يدري من أين يبدأ العلاج. وعلى الرغم من هذا البؤس المخمّر، تسمع في الخطاب الإعلامي الرسمي، المحلي والعربي عموماً، ألواناً من التفاؤل والكلام المعسول، الذي لا يمتّ للواقع لا بصلة ولا ببصلة. كأنّ المسؤول قرّر، عن سبق إصرار وترصد، أن ينفصل عن الواقع ويعزف لحنه الخاص غير المُطرب، كمن يداعب نايه الحنون في ورشة حدادة. وتلك حالةٌ غريبة تحتاج لتشريح وفكّ وإعادة تركيب، لفهم الدوافع التي تختبئ في بطن “الشاعر”، وتجعله يسرف في الغزل، مستحسناً واقعاً مليئاً بالبؤس والتردّي. ويبدو أن هذا الموقف هو قرار واع ينبع ربما من استهتارٍ بالمستمع أو المشاهد، على اعتبار أنه جهة مأمونة، ليس في وسعها فعل شيء، مهما بلغ السوءُ مبلغه، وتلك حكايةٌ أخرى لها علاقة بالنظارات التي يضعها معظم المسؤولين الكبار، حينما يجلسون على الكرسي الرسمي، إذ تنكشف أمامهم الحكاية كلها، خصوصاً ما بطن منها، ويُدركون أنّ كل ما يجري فوق الأرض محضُ عبث، وأن “الحكاية” كلها تمثيل ولا يستحقّ الأمر عناء الصدق أو العمل الجادّ، لأنه لا فائدة منه، ما دامت الجذور في حالة تعفّن ميؤوس من شفائها!
أول أسئلة الأردن الكبرى السؤال الاقتصادي، وهو متشعّب مملٌّ وصادمٌ في الوقت نفسه، فلا يكاد يمر يوم من دون أن يلفح وجهك كلامٌ في هذا الباب، ولكنه كلامٌ من نوع أسمع طحنا ولا أرى حبّا. ولو قيّض لنا أن نجمع كل ما قيل وما عقد من ندوات ومؤتمرات و”خلوات” وخطط وبرامج في هذا الحقل، لأمكننا أن نجمع أطنانا من “المخلفات”، لا يصلح جلها إلا أن تكون حطبا في موقد فقيرٍ لا يجد ثمن “ربع” كاز لتدفئة صغاره. وقد كنت شاهدا، بحكم عملي الصحافي، على عشرات المؤتمرات والقرارات والبرامج والخطط الساعية إلى النهوض بالاقتصاد وتحديثه وإصلاحه وتنميته وتصحيحه. ومن عجبٍ أن الحصيلة كانت، بعد كل تلك الجهود (الجبّارة!) نصف مليون عاطل من العمل، و71% من ميزانية الدولة رواتب موظفين ومتقاعدين، و17% أو قريب من هذا لخدمة المديونية التي لا يُرجى سدادها، وما بقي هو لتنمية المجتمع وإقامة المشاريع الجديدة، إن بقي شيءٌ أصلا. ولا أعرف كيف ينام مسؤول في بلد نصف شبابه لا يجدون ثمن شطيرة فلافل، هؤلاء كما وُصفوا قنبلة موقوتة، سيكون انفجارها مدوّيا ومكلفا إلى حد مريع، مع العلم أنني أسمع وأقرأ كلاما عن “مكافحة” البطالة منذ 40 عاماً، ولا يمكن أن يغيب هذا البند عن أجندة أي حكومة، حتى بات المرءُ على ثقةٍ بأن مكافحي البطالة على مدار العقود الماضية كانوا يتفنّنون في زيادة نسبة العاطلين من العمل، واختراع كل الأساليب الإبداعية في تفريخ أجيال وأجيال من هؤلاء، حتى بات لدينا هذا العدد المهول ممن لا يجدون عملا غير الانتظار و”تربية الأمل!”، للحصول على فرصة عمل. وهذا “سؤالٌ” يجب أن يُحاسَب عليه كل من استلم مسؤوليةً في هذا الملفّ، لو كان ثمّة عدل أو نية في إصلاح الحال والأحوال. وهنا أخطر ما في المشهد، حين تتحوّل الأسئلة بشأن جدّية قرار الإصلاح الاقتصادي إلى شكّ، سرعان ما يتحوّل إلى يقين مدمّر، يدور حول “مخطّط” لإبقاء البلد في حالة جوع مزمن، يعيش في منزلة متوسطة بين منزلتين: الموت جوعاً والشبع .
سؤال الاقتصاد لن تجد له جواباً في قاموس الساسة، بل ابحث عنه في مرويات التاريخ غير المكتوبة لا في كتبه. والسؤال السياسي هنا مرتبطٌ بشكل وثيق بسؤال الاقتصاد. وهنا تحضرني جملة كتبها صحافي عريق منتقداً منظمّات المجتمع المدني المموّلة من الخارج، وغرقها في إثارة قضايا تفرضها الجهات “المانحة!”، حيث قرّر، في نهاية نقده، أن “من يدفع لك ينتظر منك أن تلتزم بسياسته”، فلا أحد يدفع في هذا العالم بلا مقابل. ويومها علّقتُ عليه كاتبا بسؤال: هل ينطبق هذا المبدأ على الدول كما ينطبق على مؤسّسات المجتمع المدني وفرسانها؟ ولم أتلقّ جوابا حينها، لأن الجواب محفوفٌ بالمخاطر، خصوصاً بعد إقرار قانونٍ يجرّم حرية الرأي، ويضعك في مواجهة حكم طويل بالسجن و/ أو دفع غرامة طائلة لا تملك منها غير فواتير ماء وكهرباء وهاتف مكسورة عليك، وبالطبع أقساط قرض أو أكثر لبنك أو أكثر لقاء شراء حاجاتٍ أساسية، لم يعد في وسعك أن تستغني عنها أو تشتريها نقدا.
ولعلّ ما يقال عن السؤال السياسي يُفضي إلى سؤال الحقوق والحرّيات، ففي فلسفة تقوم على هيكلة واقع حزبي على مقياس رؤيةٍ مسبقةٍ عما يريد “المهندس” أن يكون عليه هذا الواقع، لا يمكن لك أن تتحدّث عن “تنمية” حزبية، إلا إذا كنت تتصرّف كمزارع نصف ميزانية مزرعتك مخصّصة لتنمية الأعشاب الضارّة لا النباتات المفيدة.