وطنا اليوم – في صباح الاثنين التاسع والعشرين من آب (أغسطس) 1960، ضرج دم الشهيد هزاع المجالي تراب الأردن، حين أقدمت يد غادرة على تدبير عملية اغتيال، لرجل أفنى حياته من أجل وطنه، ولم يأل جهدا في الإسهام بنهضة المملكة، وتحديدا لعاصمتها الفتية عمان. في تلك الفترة، كانت العصامة تتفرد بنشاطها السياسي، واحلام النهوض بمستقبل مشرق للبلاد، وهي ترسي لبناتها الاولى لكثير من المشاريع الحيوية في الاقتصاد والتعليم والنقل والثقافة والبناء، وغيرها من المشاريع الكبرى. في الحادية عشرة والنصف ظهرا، وبعد أن أنهى رئيس الوزراء هزاع المجالي جزءا من مهام يومه في دار رئاسة الوزراء (مقر البنك المركزي الاردني حاليا)، التي تقع على جانب شارع الملك حسين في وسط عمان، علت غمامة سوداء سماء المنطقة، ودوى انفجار شديد القوة فيها، ليدمر جزءا من مبنى الرئاسة الذي يحتوي على غرفة المجالي، مرتقيا حينها شهيدا، ارتفعت روحه الى جنات الخلد. لكن مدبري الجريمة لم يكتفوا بهذا الانفجار، بل ألحقوه بتفجير ثان، دمر الطابق الأرضي للمبنى، وكان هذا الحدث غير مسبوق في تاريخ العاصمة التي تتطلع لما هو ابعد من الوقوع في الانفجارات، ماضية بقوة نحو التحديث والتمدين والنهضة. اثنا عشر مواطنا سقطوا شهداء في ذلك الانفجار المزدوج، هم:
رئيس الوزراء هزاع المجالي، وكيل وزارة الخارجية زهاء الدين الحمود، مدير السياحة عاصم التاجي، الشيخ جمال عطوي المجالي، ومحمد سلامة المجالي، وجميل خليل المصاروة، وأحمد محي الدين الصريفي، ومصطفى كايد الرواشدة، ومصطفى كايد الأحمد، والصبي صالح عارف إسماعيل، وجرح واحد وأربعون شخصا، ولاحقا توفي ممدوح إسحاقات، مرافق المجالي متأثرا بجراحه. في تلك اللحظات، أعلن جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال استشهاد هزاع المجالي وخاطب المواطنين الاردنيين بنبرة حزن حارة، قائلا إنه “أخ وصديق مخلص حميم.. قضى في سبيل خدمة الأردن والعالم العربي.. واستشهد أثناء قيامه بالواجب المقدس”. لم ينم الأردنيون ليلتهم تلك، فالمملكة التي يرفعون مداميكها بجدهم وجلدهم وصبرهم على الملمات، لم يسبق لها أن وقعت تحت وقع دوي انفجارات غادرة، تغتال أجملهم، وتصيبهم بالحزن والأسى. بدت عمان كئيبة وهي تحمل جثامين الشهداء على الاكتاف، وفي الكرك، حمل الاردنيون شهيدهم المجالي، والسؤال المر يحدق في أيامهم: لماذا؟ وما الذي فعلته بلاد الدحنون والزعتر لكي يراق دم أجمل أبنائها غدرا؟ التأم الاردنيون على وقع هذه الفاجعة، وخرجوا منددين بمرتكبيها في الثالث من أيلول (سبتمبر) 1960، وكان يوم احتفال بالمولد النبوي، توجهت فيه جموعهم الى السفارة المصرية في جبل عمان، محتجين على مرتكبي الجريمة التي جاءت على خلفية اختلاف سياسي أردني مع مصر، كان يمكنه أن يعالج بالحوار، تحت ظلال الدم العربي الواحد والأمة العربية، لكن القتلة لا يفهموا لغة الحوار، والاردنيون أبوا أن يحيلوا تلك التظاهرة الى لحظة انتقام، فأوقف رجال الأمن مسيرة المواطنين نحو السفارة، ومنعوا أي تماس معها. شكلت لحظة اغتيال المجالي|، صفحة قاتمة في تاريخ العلاقات العربية- العربية، بخاصة وأنها مست شخصية كالمجالي، مشهود له بالعقلانية والحكمة، اذ تقدم مسيرته، صورا مشرقة عن عروبته، وإيمانه العميق بالأمة، واستعادة دورها التاريخي. فمنذ بواكيره، لمع نجم المجالي الذي مضى في طريق العلم والمعرفة، كأنه كان يعد العدة لموقع يكون فيه صائغا للتغيير في واقع الامة، وقد شهد الكثيرون على حكمته وحماسته، وابتعاده عن العنف، لمع نجم المجالي الذي مضى في طريق العلم والمعرفة، كأنه كان يعد العدة لموقع يكون فيه صائغا للتغيير في واقع الامة، وقد شهد الكثيرون على حكمته وحماسته، وابتعاده عن العنف، فأثناء وجوده في مدرسة السلط، إحدى أعرق المدارس في المملكة، أسس مجموعة لمناهضة الوجود البريطاني في البلاد آنذاك، وتعبيرا عن احتجاجه على سياسة بريطانيا في المنطقة العربية، أقدم على إطلاق حزمة مفرقعات غير مؤذية، مؤكدا بذلك على أن الاحتجاج، أيا كان شكله يجب ألا يمضي نحو العنف والدم. تكشف هذه الحادثة، عن مدى الادراك المبكر الذي تمتع به المجالي في صياغة وعيه الوطني والقومي والانساني، وهو ما أسهم بلفت الانتباه الى قدراته في هندسة علاقاته السياسية، وتعزيز أفكاره ومفاهيمه بمجالات وعي متقدمة، وقد تجلى ذلك خلال عمله في عدة مواقع في الدولة، كان يرفض فيها كل أشكال قمع الحريات والاعتقال للمعارضين السياسيين. في مناصبه التي تدرج فيها، لم يقف الامر عند ذلك حسب، بل وجه كل اهتمامه الى صياغة مفاهيم ادارية ما تزال حاضرة في الوجدان الوطني، ولعل عمله في منصب رئاسة بلدية العاصمة عمان، تكشف قدرته على النظر الى المدينة التي احبها بعين الحريص على نهضتها، لانها تمثل قلب المملكة وصورتها أمام العالم. وضع المجالي أول مخطط عمراني للعاصمة، أسسه وفق رؤية، تقسم المدينة الى وسط وأحياء تقدم فيها خدمات لم تشهدها عمان من قبل، لتصبح العاصمة من أجمل المدن في المنطقة، وأكثرها تنظيما وخدمات. وإثر خدماته الجليلة لعمان، وتنظيمها، وربط أحيائها ببعضها وتنظيم سوقها ومرافقها العامة، ومحالها التجارية وأحيائها، منحه جلالة الملك الشهيد عبدالله الأول ميدالية، تكريما لمجهوداته، ما يزال يحملها من بعده كل أمين للعاصمة، اقتداء بما كان عليه من انضباط وقدرة على التخطيط، والتزام بالعمل.