د. زيد الحمزة
لا تتطور اللغة، أي لغة، ولا تقوى على القيام بوظيفتها التي نشأت من أجلها كوسيلة للتعبير والتواصل إلا بمراجعتها تِباعًا والقبول بإدخال مفردات جديدة عليها وإسقاط أخرى لم تعد صالحة للاستخدام، وإلا بإعادة النظر في قواعدها وطرق كتابتها لجعلها أبلغ في توصيل المعلومة والفكرة ومواكبة التغير في العلاقات بين الناس والآلات التي استجدت لديهم، مع بقاء المفردات القديمة التي زالت مسمياتها محفوظة في المعاجم كما الآثار في المتاحف، وهذا ما يحتاج إلى جهد لا يكل ولا يمل من قبل ذوي الشأن والاختصاص.
لطالما تعرضتُ في هذا الصدد لدور مجامع اللغة العربية وأعربتُ عن عدم رضاي وكثيرين غيري عن تجاهلها عملية التطوير وانشغالها بما هو أقل أهمية وأدنى شأنًا، وعزوْتُ ذلك لتشكيلها غير الديمقراطي، وتحوُّلها إلى هياكل بيروقراطية لا هم لها إلا ولاء رؤسائها وأعضائها لمن عيّنهم وحدد رواتبهم ومكافآتهم… وليس هناك من يحاسبهم ولا حتى من يعاتبهم على تقصير في عصرٍ لا ينتظر المتثائبين.
في النصف الأول من القرن الماضي وبعد خسارة تركيا الحرب أمام الدول الاستعمارية الأوروبية الكبيرة آنذاك جنحت إلى تغيير العديد مما ظنته احد أسباب انهيار إمبراطورتيها فلجأ قائدها العسكري كمال أتاتورك مثلاً إلى الإمساك بتلابيب اللغة التركية وأمر بتحريرها من الحروف العربية واستبدالها باللاتينية، فتبعتْ ذلك بالضرورة إصلاحاتٌ موازية على قواعدها، وفي ثلاثينات القرن الماضي قام في مصر نفر يدعون لتطبيق الطريقة التركية على اللغة العربية ويقودهم عبد العزيز باشا فهمي رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة آنذاك، لكنه ووجه بمو?ة واسعة من المعارضة ليس في بلده فحسب بل في معظم البلاد العربية، ففي العراق مثلًا استفتت مجلة «المجلة» وهي أدبية ثقافية، بعض كبار الكتاب «حول هذه الدعوة الخطيرة» فجاءها رد مطول من الزعيم السياسي الكبير كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي نشرتْه في السابع من أيار ١٩٤٤ يرفض فيه استبدال الحروف العربية باللاتينية لأنها تزيد الأمر تعقيدا وتشوه الاختزال الاصلي السلس فيها، واقترح للتسهيل والتيسير المقصوديْن بعضَ التعديلات في القواعد والنحو وأشار الى اهمية التركيز على فلسفة اللغة العربية واشتقاقاتها، لكنه في?النهاية وبفهمه الإنساني الشامل استدرك قائلا: «أما اذا اتفق العالم كله من اقصاه الى أقصاه في يوم من الأيام على استعمال حروف موحدة فحينئذ لا يسع الأمة العربية إلا قبول تلك الحروف».. وفي اغسطس من نفس السنة ١٩٤٤ رد عليه، مطولًا ايضاً، الاستاذ عبد العزيز فهمي في كتيب من تأليفه بعنوان «الحروف اللاتينية لكتابة العربية» بأدب جم وكياسة تليق بمكانة الجادرجي وتحترم مجمل آرائه، لكنه لم يتراجع عن دعوته التي باءت آخر الأمر بالفشل والتجاهل، ومن المؤسف أيضًا أن الاقتراحات البديلة وبعضها بالغ الأهمية، بتغيير قواعد لغوية صع?ة معقدة، لم تر النور حتى اليوم!.
لفت نظري مؤخرا جهد جديد آخر يتعلق بنحت مصطلحات جديدة بالعربية مواكبة للتوسع السريع المطّرد في اللغات الأخرى ويتمثل بورقة بحثية بعنوان «الترجمة للعربية كممارسة معرفية مفتكّة عن الكولونيالية…”لِ (منال حمزة وعبدالله البياري، ايار، ٢٠٢٣) اللذيْن يعرضان مقاربة فعل الترجمة بمنهج تشاركي ومرن يستهدف مناهضة المحو المعرفي ويؤكد إلحاحية مشروع حيوي جماعي لسلسلة ترجمات/او نحت مصطلحات معرفية من أدبيات الافتكاك عن الكولونيالية، خاصةً في مجال المعارف الإنسانية والاجتماعية في السياق العربي..
وبعد.. فإن ميادين الحراك اللغوي مفتوحة بلا حدود، لأن العربية ككل اللغات لا تتوقف قط عن النمو والترقي، ولن تنتظر المتخلفين!..