في الطّريق إلى العام الجديد ، تلتفتُ المرآةُ إلى الوراء قليلاً ، لترى أيها المُسافرُ بعضاً من البقع السّوداء والليالي العصيّة واللحظات المُرَّة ، التي غدت كالطَّوق الخانق حول الحمامة البريئة ، وسجرت بحورَ لياليك بِشُعَلٍ من ظلامٍ بهيم ، حتى سلبت منك إرادة الحياة ودفئها ومذاقها ؛ فما العواصفُ التي حملتها “كورونا” بأثقلَ ولا أعتى من سعير الأمس ، الذي يأكل بطن صاحبه بفقره وعُسره ، وينهشُ العمر الذي تكابرَ على التَّمني ، حتى صارَ يطلبه على استحياء “يا لَيْتَ شِعْرِي وَمَا في لَيْتَ من فَرَجِ”.
مع تعاظُم وطـأة وأزيز وأهوال العيش والوجع النفسي ، التي طالت الإنسان البدائي الأول في العصور القديمة ، ومع انفــلات معطيات الواقع الحديث ، وألف باء النوائبِ والمحن والتغيرات التي يعايشها البشر الآن ، ينخفضُ مستوى أمنيات الشعوب لتعود إلى كهوفِ القهر والظلام من جديد ، وترتحلَ على ناقــةِ القحــط والظمـأ عبر صحــراء جرداء خاوية ؛ ويتهـــاوى مؤشر الأمنيـــات لدى الإنسان ليصل إلى حــدٍّ مجهـول ، بحيث يعيشُ معصوماً عن المُنى ؛ ورغم كُل المصاعب التي تقلَّم آمالنا وتحجِّم إطار تفكيرنا ، إلا أننا نتمنى في سِــرِّنا ما يجعلنا نخرجُ من جوف الثرى ، والأماني في الجهــر يضحكن منَّا ؛ كأننا مقبـورين في أكفــان الأمنيات.
ككلِّ شعوب الأرض وسكَّانها ، لا ينفردُ الأردنيون بأُمنياتٍ عجيبة أو مستحيلة ، لا بل أنَّها في تصنيف حياة الشعوب تُعـد من أساسيات العيش ؛ فأيُّما أدرت بصرك في القرية ، في المدينة ، على أطراف الشارع وفي الأسواق ، في الحافلة والتاكسي ، وفي المناسبات المختلفة ، لا تسمعُ سوى أوركسترا الشكوى ، ولا تجـد غيرَ كورال الضَّنك والقهــر ؛ إلى الدَّرجة التي أصبحت وشمــاً ظاهراً في أهازيجنا وأغانينا وموروثنا الشعبي ؛ فليس شغَفــاً منهم بالزمن الجميل (كما يسمونه) ، إنّما هي طريقتهم التي تدخّل فيها القدر للهروب من واقعهم المرير إلى حيث يشحنون الهمَّة على الصبر والتحمُّل ؛ لأنهم على يقين أنَّ جزيرة أحلامهم وأمنياتهم تدور في حلقــةٍ مُفرغة ، ولا يمكنها أن تنطلق لتشقَّ بحراً هائجاً مليئاً بالحيتان ، الذين يبتلعون حتى الأحلام.
يتمنى المواطن أن يحملَ العام الجديد بشائرَ خيرٍ ، تتوقفُ فيها النّكباتُ والنوائب التي تحلُّ ببعضِ شعوب الكون ، وينتهي فيها الاقتتال والحروب والمجازر ويحلُّ السلام ، السلامُ بمعنى الأمان والاستقرار ، ونبذ الطائفية والمذهبية والعنصرية ، وأن يزول الظلم والطغيان الذي تعيشه كثير من التجمعات البشرية ، التي تُسحق وهي حيَّة.
يتمنى أنْ يعيشَ أمــداً ، كي يصلي يوماً في حُضن المسجد الأقصى وفي أكنافه ، وقـد تحرَّر بزنودٍ عربية وأنفاسٍ عالية مستبشرة ، تلتقي على العزم والنّصر لتعيــدَ كرامتها المسلوبة وحقّها المُنتـزع ؛ وتقلبُ صفحة التاريخ عن المُتاجرين بالقضية الفلسطينية ، لتبدأ سطراً جديداً من نضالِ الأحــرار الشرفاء ، بعيداً عن المراهنة والسمسرة والمداهنة والتّوهم.
يتمنى ببساطةٍ أن يجـدَ قوتَ يومه له ولعياله ، وألا يقفَ مستجدياً الحكومة الغَــرَّاء كالمُتسولِ على باب النَّصيب ، ويتمنى على الحكومة أنْ تكفَّ يدها عن اللجــوء إلى جيب المواطن ، ورفع الأسعار للسلع الضرورية والمحــروقات ، وأن تُقصـر أذرعها في فرضِ الضَّرائب المختلفة ورسوم الخدمات ، وأن تعمل على رفع رواتب العاملين في القطاع الرسمي والخاص والمتقاعدين ، لا أن تمنحَ رواتباً باليمين ثم تأخذها بالشمال نظير ما يسمى بالضرائب والنفقات ، وكأنّما “يرجعُ بخُفّي حُنين” ؛ هذه الرواتب التيً لا تكفي لسـدِّ أبسط احتياجاته البيتية ، من مؤونةٍ وسكنٍ وخدمات ماء وكهرباء وغيرها ، لا بل تطــيرُ مع الريح لتحطَّ من جديد في أعشاش الحكومة.
يتمنى أنْ تلتفتَ هذه الحكومة إلى أولئك الذين أصبحوا على قارعة الطريق ، لا يعرفونَ لهم وِجهة ، ولا يسمعُ نداءهم مسؤول ، تلك الشريحة من عمال المياومة والمهن المتخصصة والتجار والصنَّاع ، بعد أن اجتاحهم – كما نحن – طوفان “كورونا” ، الذي حرمهم من أعمالهم ومصادر أرزاقهم المتواضعة وأضرَّ بهم وبأُسرهم لفترةٍ طويلة ، إما لأسباب التوقف الاضطراري عن العمل ، أو لسطوة أصحاب العمل ؛ تماماً مثل تلك الأضرار المالية والنفسية التي يواجهها صغار المزارعين الآن بسبب تدني أسعار البيع في السوق ، الى الحد الذي قد لا يردُّ لهم تكاليف انتاجها ؛ ولعلك تتخيل الحالة الكئيبة القاتمة التي يقابلُ فيها أحدهم أبناءه وأسرته “مكسور الجناح” كما يقولون ، وهو بلا حولٍ ولا قوة ؛ فماذا تتوقع لهؤلاء أن يتمنوا ؟!
لا ترقى أمنياتُ المواطنِ كثيراً ، ولا تتعــدَّى أرَقٌ على أرق ، أو حزنٌ صامتٌ يهمسُ في القلب حتى يحطمهُ كما يقول شكسبير ، هذا المواطنُ الذي يرى ابناً له ألقت به ريحُ البطالة في أحضانه ، ولا زال يُطــاردهُ كابوس التعيين والوظيفة لسنين طويلة ، ليُضافَ إلى صفوف المعتالين في أسرته ، ويبقى محمولاً على كتفيه ، يُرهقُ كاهله ويُضيقُ صدره ؛ أو حين يرى بنتاً خطفتها البطالةُ من استحقــاقِ الحياة ، وقد صارَت الوظيفة رُكناً من أركان الزواج ، ومطلباً رئيساً لانخراط الفتيات في ركاب الزواج ؛ وعلى زخم الحزن الذي يحملُ والمعاناة التي يتكبَّد ، تجده متفائلاً بالأماني رغم نزوعها للمستحيل ، خوفاً من أن يحبلَ حزنهُ باليأس.
أمنياتٌ كثيرةٌ تطوفُ في فضاء كل مواطنٍ ، تأكلُ وتشربُ وتنتقلُ معه ، كلّما شـدَّ حزام الفقــر على جنبيه ، وكلَّما بلغَ به السيلُ الزُّبى ، وكلَّما حاول بناء جدران السعادة من قصبِ الحُزن ؛ غيرَ أنَّ الجميع يتَّفقون على أمنيةٍ عظيمةٍ نبيلةٍ ، بأن ينعمَ هذا الوطــن بالرّخاء والأمنِ ، وأن يحفظه الله من الكوارث والأسقام والآلام.
أ. عمار البوايزة