جهاد أحمد مساعده
يعيش العالم اليوم منعطفًا مُهمًا وحاسمًا إذ تسيطر الإمبراطورية الرقمية على كافة مجالاته مما أحدثت فيه تحولات لم يعتاد عليها الإنسان من قبل، ففرضت تغيرًا وتبدلًا في أنماط سلوك الأفراد، الأمر الذي أدى إلى ظهور ممارسات متعددة، وأطر جديدة تتبع ذلك التغير.
ومع ما تحمله الثورة التكنولوجية من نتائج إيجابية على الفرد والمجتمع إذا ما تم استثمارها على الوجه الأمثل، فإن آثارها السلبية تبرز مع التمرد على المبادئ الأخلاقية، والضوابط القانونية والقواعد الأساسية التي تنظم شؤون الحياة الإنسانية.
ومن هنا تبرز المبررات لنشر ثقافة المواطنة الرقمية وتدريسها في المؤسسات التربوية، ومما لا شك فيه أن نشر ثقافة المواطنة الرقمية في البيت وفي المدرسة وفي الجامعات وفي المؤسسات العاملة مع الشباب أصبح ضرورة ملحة، يجب أن تتحول إلى برامج ومشاريع في خططها الاستراتيجية بالموازاة مع مبادرات المجتمع المدني، حتى نتمكن فعلا من تعزيز حماية مجتمعنا من الآثار السلبية المتزايدة للتكنولوجيا، وتعزيز الاستفادة المثلى للمساهمة في بناء الاقتصاد الرقمي الوطني لتنمية المجتمعات المعرفية.
إن روح التمرد التي خلقها الإعلام الرقمي أثرت سلبيًا على الروح الوطنية لدى النشء، وهذا ما أثبتته نتائج الدراسات العلمية في انخفاض مستويات الارتباط بالانتماء أو الخدمة العامة، وعندما تنخفض الروح الوطنية يكثر الفساد والإهمال وضعف الإنجاز، بينما إذا استطعنا فعلاً الاستفادة من التكنولوجيا في رفع مستوى الروح الوطنية، فهذا يعني تسخير تلك التكنولوجيا لعلاج واحدة من أكبر مشكلات الإنسان الذي أصبح يشعر بالاغتراب.
إن حياتنا اليومية تحولت لحياة رقمية، وأصبح استخدام تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحديثة للمشاركة في الأنشطة التعليمية والثقافية والاقتصادية.مبدأ أساسي لا مفر منه، بل قد أصبحنا نعيش في ما يسمى “المجتمعات الرقمية” التي تقوم معظم نشاطاتها على التقنية الحديثة التي فرضت على المواطنين تعلم وممارسة كثير من أساليبها التقنية.
ومن هنا يتوجب على مؤسسات الدولة الاهتمام بموضوع المواطنة الرقمية وتوجيه الحماية للمواطنين من الطلاب والشباب والمراهقين، وتعريفهم بمنافع التقنيات الحديثة، وحمايتهم من أخطارها، و كيفية التعامل الذكي معها من خلال مبادئ الاحترام، والتعليم، والحماية.
وعلى الرغم أن التكنولوجيا الرقمية تشكل الداعم الرئيس، والمرتكز الأساس في تحفيز الريادة والابتكار والإبداع والتعلم ودفع عجلة التنمية الشاملة، فإنها تمثل أيضاً بوابة للدخول إلى عالم الفضاء الإلكتروني الذي يتسم بالشمولية، والانفتاح بعيداً عن التشريعات والقوانين، وهو ما يتيح للجميع إمكانية استخدامها بصورة حرة وتحت هوية مجهولة. لذا فإن “الإنسان الرقمي” ما لم يكن مسلحاً بالمعرفة اللازمة والإدراك الكافي، فأنه سيجد نفسه عاجزاً عن مواكبة التطور الرقمي للمجتمع، وبالتالي يصبح أكثر عرضة لأشكال الجرائم الإلكترونية.
لقد ساهم الفضاء الرمزي بتشكيل إطارًا جديدا لعلاقات اجتماعية عابرة للقوميات تتجاوز الإطار الفيزيقي المكاني والتفاعل الوجاهي، وشكل مستخدموه الذين يجمع بينهم اهتمامات مشتركة جماعات يطلق عليها الجماعات الافتراضية لا يمكن مراقبة علاقاتهم، فإذا كنا سابقاً نستطيع معرفة اهتمامات الأبناء ومراقبة علاقاتهم بالآخرين، فقد أصبحوا الآن يتواصلون مع أشخاص رقميين مجهولين يشكلون خطراً محتملاً قوياً، خصوصا إذا أشرنا إلى نتائج الدراسات العلمية التي أثبتت أن معدل استخدام الأطفال والمراهقين لهذه الأجهزة قد يصل إلى ثماني ساعات يومياً، أي أكثر من الساعات التي يقضونها مع الآباء والأمهات والمعلمين.
وهنا نشير أن الأبناء ليسوا خبراء للتواصل الإيجابي والتعامل الأخلاقي عبر الفضاء الإلكتروني، بالرغم من كونهم خبراء في استخدام التكنولوجيا، لكنهم لم يدركوا معنى البصمة الرقمية، وأن نشر أي معلومات خاصة بهم قد يعرضهم للخطر، وإن إجراء دردشة مع الغرباء كفيلة أن تقودهم إلى الوقوع في كثير من المشكلات، لذلك من الضروري تدريبهم وتوعيتهم في كيفية التنقل بشكل صحيح، والمشاركة بشكل أخلاقي مع البيئة الرقمية
وهنا يبرز دور المؤسسات التربوية والشبابية بما تملكه من إمكانات وأدوات وآليات وكوادر بشرية قادرة على تشكيل الجانب القيمي والسلوكي للشباب، وتشكيل المواطنة الرقمية لديهم من خلال البرامج والأنشطة التي تغرس قواعد التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي، والتعامل مع المحتالين عبر الإنترنت.
وفي هذا الإطار بادرت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واستراليا لتدريس مواضيع خاصة بالمواطنة الرقمية لطلابها في المدارس في إطار منهج التربية الرقمية، كما تخطط فرنسا لجعل موضوع المواطنة الرقمية قضية وطنية كبرى.
ولكون المؤسسات التربوية والشبابية تتحمل مسؤولية كبيرة لوضع أسس المواطنة وإعداد الأفراد إعدادًا قِيميًا وتربويًا واجتماعيًا فقد كان لزاماً عليها القيام بدورها المهم في إكساب منسوبيها بالقيم والسلوكيات المثلى كمواطنين رقميين، وترسيخ قيم المواطنة لديهم.
فمفهوم المواطنة هو جزء من الفهم الشامل لصوره دوله القانون، وتكوينها الديمقراطي الذي يتسم بالحضور الكامل للفرد في الحياة العامة، والمشاركة في تكوين واجبات متبادلة داخل إطار المواطنة، مما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز، ويتمتعون بسلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على المساواة والحرية، والمشاركة والمسئولية الاجتماعية.
لذا فإننا بحاجة ماسة إلى رسم السياسات الوطنية لحماية شبابنا من تلك الأخطار، سياسة وقائية ضد أخطار التكنولوجيا الرقمية، وسياسة تحفيزية للاستفادة المثلى من إيجابياتها، سياسة ترتكز على توعية المواطنين بالحقوق التي ينبغي أن يتمتعوا بها، وكذلك الالتزام بالواجبات التي ينبغي أن يؤدوها، خاصة أننا أصبحنا أمام تحولات كبيرة تتسم بالتغيير والتأثير ساهمت في كسر المفاهيم التقليدية للمجتمعات، الذي تحول معناها من مجموعة أفراد مع تاريخ وثقافة مشتركين إلى مجتمعات افتراضية لا تفصلها الحدود المادية بين شعوبها وأفرادها.