وطنا اليوم:في النصف الثاني من القرن الماضي، ظهرت في بعض الدول العربية موضة “وزارة التموين”. وقد اقترنت بهذه الوزارات أسماء مسؤولين اشتهروا لطيلة ما مكثوا فيها. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الدكتور كمال رمزي ستينو، الأستاذ الجامعي المصري والمبدع في مجال الزراعة، والذي عمل في الوزارة لمدة (15) سنة متواصلة (1956-1971).
ولكن وزارة التموين في تلك الحقبة كانت مصحوبة بشح السلع، ورَواج السوق السوداء، والفساد. وقد كان أبرز مظهر في تلك الفترة لهذه المظاهر السلبية هو الدجاج. وكثرت أيامها التعليقات والنكات المصرية الطريفة على ما سمي بـ”فراخ الجمعية”، حيث كانت جمعيات المستهلكين التابعة لوزارة التموين تشتري الفراخ المذبوحة، ويوم وصولها إلى الجمعية يتهافت المشترون عليها. وكان بعض المسؤولين في إدارة هذه الجمعيات يهرِّبون الدجاج ويبيعونه بأسعار أعلى للقادرين على ذلك.
في تلك الأيام، كنت طالباً في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وكثر تساؤلي عن سبب نقص الدجاج في مصر، ولماذا لا تستطيع مصر بمياهها وقواها العاملة الزراعية، أن توجه اهتمامها لزيادة إنتاج الدجاج. وهو ليس تكنولوجيا فضائية، بل هو عملية سهلة. ولما ألححت في السؤال استدعيت من قبل إحدى دوائر التحقيق والمتابعة للاستجواب. إذ قام أحد الطلاب المصريين بإبلاغهم عن كثرة كلامي في هذا الموضوع. وقابلني ضابط ظريف، وسألني مستفسراً “أهلاً بك يا أستاذ جواد ضيفاً على مصر، ولكن مثل ما بيقول المثل (المَسَلْ) “يا غريب خليك أديب”. وشرح لي وهو ينظر إلى وجهي المستغرب أنك تنتقد نقص الدجاج كثيراً. فقلت له نعم، وهي صناعة مربحة وسهلة، ولديكم علف وإنتاج ذرة يكفي لتسمين الدجاج. فقال “بلاش الكلام في الموضوع ده “. ولكنني وبتشجيع من حسن معاملته قلت له “ولا حتى البيض مفيش”.
ووقّعت على المحضر بألا أعود للحديث في الموضوع ثانية، وسمح لي بالانصراف. ولما وصلت الباب التفتُ إلى صديقي الضابط وقلت له متسائلاً: طيب ممكن أسألك سؤالاً واحداً. فقال شبه مبتسم “اسأل يا سيدي” فقلت له باللهجة المصرية “ممكن تشرح لي ليه فيه أزمة فراخ في مصر؟”. فنظر إليّ ثم ضحك طويلاً وقال “أنت راجل عجيب. روح يا أخي اهتم بدراستك ربنا يخليك”.
وعدت إلى الأردن، وصرت بعد خمسة عشر عاماً من تلك الحكاية وزيراً للتموين في الأردن، والتي كانت موضع فخر لمن أسسوها على أنهم أبدعوا في ضبط الأسعار. وقد أنشئت الوزارة في الأردن على أيدي بعض الوزراء الأردنيين الذين درسوا في سورية والعراق وكانوا أعضاء في حزب البعث الأردني. وهم لا شك قدموا خدمات جليلة للوطن. ولكن وزارة التموين لم تكن منها.
وفي عام 1974، وبعد هزة النفط التي هدد خلالها الملك الراحل فيصل بن عبد العزير آل سعود بإيقاف إنتاج النفط إبان حرب رمضان 1973 (أو حرب السادس من أكتوبر)، ارتفعت أسعار النفط أربعة أضعاف. ولأن الأردن بلد غير نفطي ومستورد لمعظم حاجاته آنذاك، ارتفع الرقم القياسي للأسعار خلال ذلك العام (1974) بنسبة 12%، وكانت أعلى نسبة عرفها الأردن حتى ذلك الوقت. وسببها أن سعر السكر ارتفع كثيرا، وطالب مستورد السكر الذي فاز بعطاء لتزويد القوات المسلحة بتعويضه عن فرق السعر الذي حصل لأسباب قاهرة ( force majeure )، ولكن المسؤول في القوات المسلحة رفض ذلك الطلب، فقام المتعهد بإلغاء العقد. وتأخر تسليم السكر المادة المهمة لأفراد الجيش الذين كانوا يعتبرون الشاي الحلو والثقيل مادة أساسية لهم، خاصة في وجبة الإفطار. وبسبب تراجع القيمة الشرائية للرواتب وعجز الحكومة عن تعويض كل موظفيها عن ذلك، كثرت الململة، وخرجت وحدات من سلاح المدرعات إلى الشوارع بدباباتها.
وعاد الراحل الملك الحسين من رحلة لم يكملها ليتدارك الأمر. واتُّخِذ قرار بإنشاء وزارة التموين، والتي كانت مجرد دائرة في وزارة الاقتصاد الوطني. ولما تسلمتُ الوزارة في نهاية عام 1979، كانت تحتكر استيراد السلع الغذائية الرئيسية كاللحوم، والأرز، والسكر والطحين والقمح. وكبر دور الوزارة. وفي عام 1976 أنشئت المؤسسة الاستهلاكية المدنية لتستورد بضائع معفاة من الجمارك لكي تباع للموظفين بأسعار أقل من أسعارها في السوق، تعويضا للموظفين عن ارتفاع الأسعار كجزء من سياسة الدخل ( Income Policy) بدلا من زيادة الرواتب.
وقد ازدهر عمل الوزارة، والتي فشلت فشلا ذريعا في تخفيض الأسعار. علما أن السلع والخدمات التي كانت خاضعة لأنواع مختلفة من التسعير شكلت ما نسبته 85% من سلة المستهلك الأردني. وظلت الأسعار ترتفع سنويا بمعدلات تراوحت بين (15-18%) حتى عام 1979، وانخفض معدل الارتفاع في الأسعار بعد ذلك حتى عام 1985. وفي عام 1988، تقرر إلغاء الوزارة وإعادتها كدائرة إلى وزارة الصناعة والتجارة.
ومن أطرف ما حصل معي أثناء عملي القصير في تلك الوزارة أن المسؤول عن التسعير فيها أخذ قرارا بموجب قانون الأمن الاقتصادي يحدد فيه سعر القطايف. فرفضت أن أوقّع عليه، وقلت للمسؤول أن يدع السوق يحدد الأسعار. وجادلني في رأيي، فقلت له كيف تسعر القطايف والكيلو منها لا يتجاوز (14) قرشا، بينما تترك سعر الجوز المقشر معوماً وثمنه لا يقل أيامها عن دينارين أو مائتي قرش للكيلو الواحد. وفوجئت في اليوم التالي وكان أول أيام رمضان، بأستاذي في المدرسة الثانوية المرحوم عبد الملك عرفات يأتي إلى الوزارة حاملاً معه بيكاراً ومساطر وأدوات قياس أخرى.
وسألته عن سبب الزيارة، فقال لي إن مسؤول التسعير في الوزارة طلب منه الحضور لتسعير الجوز. وذهبت بحكم الفضول إلى غرفة الاجتماعات، فإذا بعدد من الموظفين ومنهم مسؤول التسعير ومعهم عدد من حبات الجوز من مختلف الأحجام، وقد انهمكوا في قياس أطوالها وقطرها. وأجابوني على سؤالي ماذا تفعلون “إننا نريد تسعير الجوز حسب حجمه”. فقلت ولكن كيف ستحددون حجمه إن كان مقشراً. فقالوا “نمنع بيع الجوز مقشراً”. فأرسلتهم إلى مكاتبهم وطلبت فوراً إصدار قرار بتعويم سعر القطايف. وفي منتصف الشهر كان سعر القطايف أقل من اثني عشر قرشا، لأن العرض كان أعلى من الطلب.
ويشكو المواطنون في الأردن الآن ومنذ قبل رمضان من نقص الدجاج في الأردن، ويقولون إن المنتجين والباعة يقللون الكميات المعروضة منه ليرفعوا الأسعار. وسبب ارتفاع سعر الدجاج هو ارتفاع كلفة تربية الدجاج، لأن العلف ارتفع سعره، ولأن سعر اللحوم قد ارتفع، فتحول الناس في رمضان إلى استهلاك كميات أكبر من الدجاج. ومن الطبيعي أن يرتفع السعر.
ويُقدم كل يوم تقرير تلفزيوني من الميدان نرى فيه مواطنين يشتكون، إما من عدم وجود الدجاج أو من ارتفاع سعره. وهذا أمر طبيعي في موسم رمضان، حيث يحتاج الناس في غذائهم إلى البروتين والسلطة والشوربة. صحيح أن الإسراف يزيد والنفس تحنّ إلى المبالغة في الشراء عند الصيام خاصة في بدايات الشهر.
وبموجب قانونها، قامت وزارة الصناعة والتجارة والتموين بتطبيق العقوبات، وبلغ عدد مخالفي تسعيرة الدجاج منذ بداية الشهر الفضيل أكثر من 450 مخالفة، هذا عدا عن الذين يخبئون الدجاج، ولكن الدجاج متاح لكل من يريد شراءه بسعره السوقي الذي لا يبعد سوى بنسب لا تتجاوز 7% عن السعر المحدد من قبل وزارة الصناعة والتجارة.
وكل يوم نسمع تفسيرا جديدا عن سبب نقصان الدجاج. وآخر نظرية أن عدداً من “نتافات” الدجاج، أو محلات بيع الدجاج الحي الذي يذبح وينظف الدجاج فيها قد أغلقت أبوابها.
للسوق قوانينه التي يعجز أي مسؤول عن ضبطها. ووزارة التموين يجب أن تخلق لمحاربة المطففين، والغشاشين والمخالفين للمواصفات، ولم تخلق لتحديد الأسعار.
وأذكر مرة في حديث لي مع دولة الدكتور عبد الرؤوف الروابدة أن قال لي “لقد عوّمتم فغرقنا”، فضحكت من ظرفه وسرعة بديهته، وقلت له “أما أنتم فقد سعّرتم فحرقنا”. وما بين الحرق والغرق ضاعت الحقيقة.
هموم الأردنيين وكثير من المواطنين العرب تفوق قصة ارتفاع الأسعار في المواسم. فهناك سودان يحترق وأناس جياع يموتون، ومهاجرون في البحار السبعة يغرقون، ونحن نلتهي عن هذا كله بتحديد أسعار الدجاج والتنكيل بمربيه وموزعيه وبائعيه