لماذا تقتلون أفضل القيم فينا؟

15 أبريل 2023
لماذا تقتلون أفضل القيم فينا؟

بقلم: الدكتور محمود المسّاد

أتذكر والدي – رحمه الله – وهو يقول لنا: “من يرغب في الدراسة ويجتهد لها، أنا معه لو ببيع جاكيتي لن أتأخر عنه”، وهذا حال كل الأردنيين في موقفهم مع أبنائهم من التعليم، فكانوا يعتقدون أن من يُفلح من العائلة بالدراسة ويكمل تعليمه ينشل الأسرة جميعا، أي أن التعليم والشهادة أمان من الظروف السيئة، إن لم يكن جواز سفر لمستقبل أفضل.

وأفهم الآن أن والدي – رحمه الله – الذي يمثل بهذه الحالة الأردنيين جميعا كونهم شعبا نقيّا، لم تلوثه المصالح، ولم تعبث به الاتفاقات وغايات الفاسدين، كان أبعد نظرا، وأكثر وعيا، وصاحب رؤية فطرية يخطط استراتيجيا دون أن يكمل تعليمه العالي، من شبكة الخبراء المزيفة والمتصدرين المشهد بكروشهم الكبيرة المتخمة، وفكرهم المحدود التنفيذي الذي لا يكاد يرى أمامه.

وفي الوقت نفسه كان الشعار المرفوع لدى مجتمعنا النظيف مجتمع الحراثين أننا “بالعلم نملك القوة “، ولم يكن هذا الشعب الطيب يعرف أن هناك من يتسلل داخل الأسرة الكبيرة إلى قتل هذا الشغف، بدافع الحسد والغيرة لضعف قدراته، أو قد يكون الأمر مدفوعا من آخرين، من هنا أو هناك؛ ليعمل بكل جهده وألاعيبه مقابل كمشة من ذهب، وبريق وعد بمنصب زائل وزائف؛ لأجل ترسيخ مقولات ومفاهيم منحرفة ” فالتعليم لم يعد مجديا، ولم يعد الآمان الذي كان، ومن جهة أخرى العمل الحثيث الممنهج لحكومات التخطيط الاستراتيجي – خمسية بعد خمسية -على رفع كلف التعليم وتهشيم مستواه، وتهميش المعايير ذات الصلة في دورالتعليم بالحصول على أي وظيفة، أو تحقيق أي مكاسب؛ مقارنة بإتقان اللغة الإنجليزية، أو إتقان مهارات القفز على الحبال، والتزلف بالكلمات.

وفي السياق ذاته، تأتي الدراسات التقويمية والتصنيفة الدولية لتربط بين واقع المجتمع الحياتي ودرجة رفاهيته، وبين التعليم ومستواه في كل دولة من دول العالم المشاركة بهذه الدراسات، مؤكدة بذلك على وجود علاقات ارتباطية قوية بين جودة الحياة، وجودة التعليم. فقد عرض موقع “وطنا اليوم” قولا حول التصنيف العالمي للدول المشاركة به؛ وفقا لمعيار “جودة الحياة ” استنادا لمؤشر قاعدة البيانات العالمية ” نامبيو”  حيث احتل الأردن في هذا التصنيف المرتبة السادسة والخمسين عالميّا، والسادسة عربيّا .

  وأظهر التصنيف نفسه على ذات المؤشر وجود 5 دول عربية في المراكز الـ50 الأولى، بالإضافة إلى 4 دول أخرى ضمن التصنيف الذي ضم 84 دولة . فقد حلّت عُمان في المرتبة01 عربيّا، والثامنة عالميّا، والإمارات 02 عربيّا و15 عالميّا، وقطر 03 عربيّا و20 عالميّا، والسعودية 04عربيّا و32 عالميّا، والكويت 05 عربيّا و49 عالميّا، والأردن 06عربيّا و56 عالميّا، والمغرب 07 عربيّا و63 عالميّا، ومصر 08 عربيّا و 75 عالميّا، ولبنان 09 عربيّا و77 عالميّا
وتصدرت هولندا الترتيب العالمي بمؤشر “نامبيو” من حيث جودة الحياة، تليها الدنمارك، ثم سويسرا ولوكسمبورغ، وفنلندا، وآيسلندا، والنمسا، وسلطنة عُمان، وأستراليا والنرويج ..
ويصنف “نامبيو” جودة الحياة في دول العالم بناءً على عوامل إحصائية مثل: القوة الشرائية، والأمن، والرعاية الصحية، وتكلفة المعيشة، وأسعار العقارات؛ مقارنة بدخل الناس، والتنقل، والتلوث، والمناخ.
ويعتمد الموقع على استطلاع آراء الناس حول مواضيع مثل: أسعار المستهلكين، ومعدلات الجريمة، وجودة الرعاية الصحية والإحصاءات الأخرى.

وعند مقارنة نتائج هذا التصنيف مع نتائج تصنيفات أخرى تكشف عن واقع الأردن في جودة التعليم وترتيبه مثلا، فإننا نكتشف وجود هذه العلاقات الارتباطية بقوة، وهذا ما أحاول تسليط المزيد من الضوء عليه في هذه المقالة؛ كي أؤكد على أننا نسير باتجاه التعدي على قيمة شغف الأردنيين في تعليم أبنائهم على الرغم من كل الظروف الحياتية القاسية التي تحول دون ذلك، أو تكاد.

ويتوافر في العالم عدة تقويمات تصنيفية خاصة بالتعليم، وقد اعتمدت لغايات هذه المقالة مؤشردافوس لجودة التعليم لعام 2023. ويعدّ مؤشر دافوس العالمي هو أحد الإحصاءات الصادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس التي تستخدَم مقياسا لجودة التعليم في مختلف الدول على المستوى العالمي، حيث كشف هذا التصنيف عن ترتيب الأردن الخامس على المستوى العربي، والخامس والأربعين على المستوى العالمي. وهذا يشرح بجلاء أن المستوى الجيد في التعليم لأي دولة في العالم بالضرورة يفضي لمستوى جيد في نوع الحياة.

وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن نهج العدالة الاجتماعية في جودة التعليم يجب أن يؤكد على الطبيعة المعقدة للتربية، والتعليم، والتعلم، ويسعى للسيطرة على هذا التعقيد بالاعتماد على وجهات نظر متعددة التخصصات، وخلط أساليب البحث الكمية والنوعية، فضلا عن النظر للبيئة الحاضنة للنظام التربوي التعليمي، وثقافة المجتمع التي تدعم هذا النظام، وتعزز التطوير الحداثي المتجدد للتشريعات التي تؤطر للعمل على تنفيذ محترف لهذا النظام على أرض الواقع في الميدان التربوي الحقيقي؛ وفقا لهذه النظرة الشاملة. 

وعليه، فإن التصنيفات العالمية لجودة التعليمية تُعَدّ من أهم الإحصاءات التي تحدد مدى تقدم الدول، حيث يُعَدّ التعليم أحد أهم الركائز الأساسية التي تعتمد عليها كل دولة من أجل المضي قدُمًا؛ لذلك، تحتاج السلطات المختصة في كل دولة إلى تطوير الموارد والمناهج المستخدمة في تعليم الطلبة؛ حتى تتمكن جميع البلدان من تحديد جودة التعليم الذي تقدمه لهم، وحتى مراقبة التقدم مقارنة بالدول الأخرى. فعلى سبيل المثال نذكر الدول العربية التي سبقت الأردن الآن في الترتيب على هذا التصنيف؛ لنرى الحقيقة بشكل أفضل، وهي على التوالي في الترتيب العربي ( قطر، الإمارات، لبنان، البحرين )، وقد احتلت التسلسل نفسه عالميّا حيث جاء ترتيبها متواليا كما الآتي: ( 4 ،10، 25، 33، ).

إن هذا الربط الواضح يشرح للأردنيين بصورة جليّة أننا كنا على زمن الأباء في تسابق، وتنافس شريف لتعليم الأبناء من أجل تحسين الحياة، وبناء منعة الدولة، وازدهارها وتحييدها عن أطماع الدول التي سبقتنا بالعلم والوعي، وأننا الآن – وبعد عقود – تراجعنا في درجة هذا الشغف، وفي مستوى قيمة التعليم في نفوس الأباء والأبناء على حدّ سواء. والسؤال الذي يطرح نفسه: من يقف وراء هذا التراجع والتهشيم لهذه القيمة العظيمة الأساسية لأمان المجتمع والوطن ؟!.