بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني / أستاذ مشارك سياسات عامة/ كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
البنوك هي وسيط التسويات المالية لعمل جناحي الدول، القطاع الخاص والقطاع العام، وهي القناة الرئيسة التي يتنفَّس منها جانبا توازن الاقتصاد، المدخرين والمستثمرين. كلما كانت تلك القناة نقية، سالكة، متزنة، منظمة، متطورة، متوازنة، انعكس ذلك على صحة، ومنعة، وصمود الاقتصاد.
ذلك أنَّ البنوك بتعريفها التقليدي إنما هي الوسيط أو القناة المالية لتدفُّق النقود بين المودعين والمقترضين؛ أي بين المُدَّخِر والمُستثمر، أو لنقل المُستخدِم. وفي الوقت الذي يجب أن تحرص عليه البنوك على عدم التفريط بأموال المودعين، لأنها مؤتمنة على تلك الأموال، فهي تسعى إلى تعويض ما تدفعه لهم من فوائد، على الودائع، وتعويض نفقاتها الإدارية، وغير الإدارية، وتحقيق عوائد مالية مجزية للمساهمين.
ولضمان عدم الخروج عن الرُّشد وعدم الاستغلال عبر الإجحاف في نسب الفوائد للمودعين، أو في التغوُّل في تحميل المقترضين تكاليف كبيرة على القروض، يأتي دور المنظِّم والمشرِّع والمراقب؛ أي البنك المركزي، للحفاظ على ذلك التوازن المنطقي بين الجانبين، وتحقيق العوائد العادلة للبنوك وللمودعين.
بيد أنَّ التطوُّرات العالمية خلقت قنوات ومُشتقات مالية متعددة لاستخدام أموال المودعين، التي هنا خصوم؛ أي التزامات على البنوك، بالمفهوم المحاسبي، ولم يعد الأمر يقتصر على استخدامات الودائع عبر البحث عن المستثمر؛ أي المقترض المناسب سواء أكان فرداً أم مؤسَّسة.
وهو أمرٌ يتطلَّب من البنوك الكثير من الحرص والحصافة والدراسة، خاصة حينما يتعلَّق الأمر بقروض لتمويل مشاريع قطاعية، تجارية، أو زراعية، أو صناعية، سواء أكان المقترض شركة كبرى، أم ضمن المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وما يتطلَّبه ذلك من التأكُّد من جدية التمويل، ونجاعة العوائد، وما يحتويه ذلك من عمل مكتبي، ودراسات، واستشارات، ودراسات مالية وفنية وحتى إدارية أحياناً، وما يكتنف ذلك من مخاطر من عدم السداد أو التأخُّر عنه.
ومن هنا بات ضمن دفاتر البنوك أصول من مُشتقات مالية، ملموسة وغير ملموسة، وبات من السهل على البنوك الدخول في استثمارات في المعادن، وفي الأوراق والسندات المالية، حكومية وخاصة، سواء أكانت سندات حكومية، أم سندات استثمارية تمويلية عقارية، أم غيرها من وسائل الاستثمار سريع العائد، مرتفع التدفقات، قليل الجهد المكتبي أو حتى الجسدي. وهو ما فتح شهية البنوك الكبرى حول العالم نحو التوسُّع في العديد من الاستثمارات في أوراق مالية، وجعلها تخرج عن الوظائف التقليدية التي كانت تقوم بها، وتكلِّفها الكثير من الجهود، ولا تعطي ذات العوائد الكبيرة التي تقدِّمها بعض الاستثمارات الورقية، بما فيها الاستثمارات بالسندات الحكومية المكفولة. بيد أنَّ العلم والمعرفة يقولان إنَّ العوائد المرتفعة تنطوي على مخاطر مرتفعة، كما أن أبسط قواعد الاستثمار تتطلَّب التنويع، وتوزيع المخاطر، وعدم وضع الاستثمارات في سلة واحدة، سواء من حيث المصدر، أو القطاع، أو الحجم. انكشاف البنوك اليوم قائم على نوعية وحجم ومستوى مخاطر محفظتها من الأصول التي استخدمت فيها أموال المودعين. فمن الطبيعي أن تستغل البنوك كل الأموال المودعة لديها، والتي تكلفها مبالغ كبيرة مقابل الفوائد، والمصاريف الإدارية والفنية، وذلك لتعويض تلك التكاليف وتحقيق عوائد مناسبة. الانكشاف الذي شهده بنك سيليكون فالي تمثَّل في توظيف ودائع عملائه في أوراق مالية ذات عوائد عالية، وبالتالي مخاطر مرتفعة.
وهي ودائع تبلغ قيمتها نحو 175 مليار دولار، 80% منها تزيد قيمة الوديعة فيه على 250 ألف دلار المُغطى بضمان الودائع، ولشركات في قطاع تكنولوجيا المعلومات. استثمار ودائع العملاء تمَّ في محفظة سندات وأوراق مالية تركَّزت في اقتصادات تواجه اليوم تراجعاً واضحاً في قيمة تلك السندات والأوراق؛ بسبب حالة الركود التضخمي الذي يشهده العالم، والذي يُواجَه بشكل عنيف عبر سياسات نقدية تحفُّظية قائمة على رفع أسعار الفائدة، والذي بدوره يؤدي إلى انخفاض أسعار السندات والأوراق المالية بشكل كبير، ما يعني خسائر فادحة في قيمة الأصول التي يمتلكها البنك، والممولة من ودائع ومدخرات العملاء. الجهاز المصرفي حول العالم لن يتأثر بما يحدث لأكبر حالة إفلاس في الولايات المتحدة، وثاني أكبر حالة انهيار مصرفي كبير منذ 2008، إلا بمستوى الانكشاف للبنك المعني فحسب، أي بمستوى التعاملات المالية بين الجهتين؛ أي إنَّ العالم لا يمرُّ بحالة انهيار مالي أو مصرفي جديد، وإضافة إلى ذلك فقد طفقت الجهات المسؤولة في كل الحكومات المتأثرة، وخاصة الولايات المتحدة بالتدخُّل النوعي السريع. ولكن الدروس المستفادة كثيرة في هذا الصدد، منها ما يتطلَّب من الجهات الرقابية النقدية، والبنوك المركزية، التأكُّد من محفظة أصول وموجودات البنوك للتأكُّد من تنوُّعها وعدم تركُّزها من جهة، وللتأكُّد من نجاعة نوعية تلك الموجودات، من جهة أخرى. كما يتطلَّب الأمر زيادة دور اختبارات الصمود لدى البنوك، وقد يتطلَّب الأمر إصدار بعض التشريعات التي تسمح بسرعة دمج البنوك، وتسمح بالتجمُّعات البنكية الموجَّهة لتمويل السحب المفاجئ الكبير من ودائع أي بنك، عبر السماح بالسحب من جميع المصارف لصالح البنك المعني، ثمَّ إجراء التسويات المالية المناسبة في وقت لاحق، تحت ضمانة الجهات الرقابية، منعاً لتكالب الجمهور على بنك محدَّد، وحماية للجهاز المصرفي من هلع أو فوبيا الانهيار المصرفي الذي قد يخشاه العامة لمجرَّد سماع إشاعة معينة. وأخيراً وليس آخراً، لا بدَّ من تحمُّل المودعين جزءاً من مخاطر التركُّز في الودائع، في حال حدثت مخاطر مثل تلك التي واجهها بنك سيليكون فالي، وهو ما قد لا يقبل به الكثيرون. بيد أنه حقيقة تُحتِّم على المودع أن يتوقَّع المخاطر، وأن يتجنَّبها عبر تنويع محفظته الادخارية بين البنوك، دون التركيز على نسبة الفائدة فحسب، ولنا فيما حدث في لبنان نموذج وعبرة، وخاصة للمدخر من خارج الدولة. وختاماً، فإنَّ التوقُّعات الرشيدة في تطوُّرات انهيار بنك سيليكون فالي، وبنك سيغنيتشر، تقول إنَّ الدول تعلَّمت من تجاربها السابقة، وبالتالي فإن تدخل الحكومات في أمريكا، وأوروبا، وبعض الدول الآسيوية المتأثرة كانت من الحصافة بمكان، بما سيساعد من مقاومة، بل ومنع حدوث أزمة مالية عالمية جديدة.
كما تشير التوقُّعات إلى ضرورة تريُّث البنك الفيدرالي الأمريكي، وتأجيل توجُّهاته في السياسة النقدية الموجَّهة نحو مزيد من رفع في أسعار الفائدة، ما يعني أنه قد لا يلجأ إلى الزيادة التاسعة في أسعار الفائدة والتي كانت مقرَّرة بنحو 50 نقطة أساس في نهاية شهر أذار/ مارس الحالي، أو قد يعيد النظر بحجمها بحيث لا تتجاوز 25 نقطة أساس.
وهو أمر سيساعد على تبريد همم وشهية البنوك نحو مزيد من رفع أسعار الفائدة، الذي يعدُّ في معظمه غير مبرر، فيما يتعلَّق بحجم أو قيمة الزيادة على الأقل، وخاصة فيما يتعلق بقروض الأفراد الممنوحة مسبقاً أو حتى الحديثة. وفي الختام، فقد أعلنت الحكومة البريطانية أنَّ الاقتصاد عاد ليعطي مؤشرات إيجابية، وأنَّ التضخُّم لن يتجاوز 3% للعام الحالي، وبالتالي قد يكون ذلك إعلاناً أولياً عن دورة اقتصادية إيجابية جديدة، والتي يشير التاريخ الاقتصادي عبر قرون إلى أنها تبدأ حينما ترزح الاقتصادات العالمية تحت وطأة ركود تضخُّمي لفترة من الزمن، إلى أن تصل إلى القعر، وهو ما وصل أو قارب الوصول إليه الاقتصاد العالمي، لتتحوَّل بعدها نحو الانتعاش والازدهار، وقد يحتاج هذا التحوُّل، لكي يبدأ فعلياً، إلى نحو عامين على الأكثر، ولعلَّ العام 2025 يكون بداية دورة اقتصادية منتعشة، ويكون العام الحالي 2023 والعام المقبل مقدمات للخروج التدريجي مما يشهده العالم من أزمة اقتصادية تراكمية لم تنتهِ بشكل ملموس منذ العام 2008.