جهاد المومني
هجمة التطبيع السريعة التي (يشنها) بعض العرب تجاه إسرائيل تثير موجة من الغرابة على مستوى العالم وليس فقط على مستوى الامة العربية التي تقف حائرة أمام موجة الشغف العربي بكل ما هو إسرائيلي ،والتطبيع الحديث الذي نشهد فصوله هذه الايام لا يقتصر على بعض المواطنين المعجبين باسرائيل كي يعامل على انه حريات شخصية كما كانت حال التطبيع العربي الذي اعقب توقيع اتفاقيات السلام بين اسرائيل ومصر والاردن والسلطة الوطنية الفلسطينية ،بل يشمل المسؤولين في الصفوف الاولى على عكس ما كان عليه الحال في التسعينيات من القرن الماضي ،فآنذاك احجم المسؤولون عن التطبيع العلني على الاقل وتحججت الحكومات بالحريات الشخصية وحق المواطن بالاختيار فإما ان يطبّع او لا يطبّع فهذا خياره، وفي حينه كانت تلك هي الحرية الوحيدة المتاحة الى جانب حرية امتداح السلام والاشادة بالقيادات الحكيمة الملهمة. تطبيع قيل انه (مشمشي) اي سرعان ما تلاشى وعاد كل الى خندقه كارهاً وحاقداً فيما واصلت الحكومات عملها الدبلوماسي بالتقارب الخجول مع اسرائيل ليس حباً وانما رضوخاً لطلبات واشنطن وضغوطاتها، وحتى هذا التطبيع الرسمي عانى الفتور ثم التوقف الا في المجالات الامنية ،وعلى صعيد المواطنين لم يطل موسم المشمش لاكثر من سنة بعدها اكتشف المعجبون بالسلام ان الاسرائيليين انفسهم لا يفكرون بدفع اي مقابل للسلام ويعتقدون ان على العرب ان يقبلوا بالاحتلال ويتعايشوا معه والا يضعوا القضية الفلسطينية عقبة امام سلام كامل وشامل تاخذ اسرائيل بموجبه الارض بلا اصحابها وياخذ العرب السلام الكامل بدون ارضهم .! ما حدث لنا يحدث اليوم لاقاربنا في الخليج العربي ،فهم يرون في اسرائيل دولة (جميلة) وفوق ذلك قوية وقادرة على حمايتهم من ايران ،فكما استقدموا الاميركيين لحمايتهم من العراق مطلع التسعينيات في عهد صدام حسين ،يستقدمون اسرائيل اليوم لحمايتهم من ايران بتعهدات اميركية ترقى الى مستوى الشروط بالتطبيع الكامل مع اسرائيل مقابل هذه الحماية التي تدار من واشنطن ،والا فان الولايات المتحدة واسرائيل ستترك الخليج ليواجه الخطر الايراني بعد ان نجح الغرب في شيطنة ايران وجعلها العدو الاول للعرب وخاصة للخليج الذي يتعثر في انهاء حرب اليمن ويخفق في تامين أنظمته من المعارضة الشيعية المدعومة من ايران مباشرة . صورة تتكرر بعد ثلاثين سنة عندما قيل لنا بعد حرب الخليج الثانية وبعد استعراض القوة في تدمير القدرات العراقية ان عليكم ان تذهبوا الى مؤتمر للسلام والا فأن مصيركم لن يختلف عن مصير العراق ،فذهب العرب الى مدريد خوفاً من مواجهة مصير صدام حسين بوعد أميركي بحمايتهم من اسرائيل التي تريد اقامة اسرائيل العظمى من النيل الى الفرات ، فاستجبنا للطلبات الاميركية بما فيها الاعتراف باسرائيل وهي لا تزال دولة تحتل اراض عربية ،وقبل ان يعترف بها بقية العالم ،وقبلنا ان نرفع ايدينا في الامم المتحدة لنرفع عنها صفة العنصرية وبدأنا بالتطبيع السياسي قبل أن تتوج الطلبات الاميركية بتوقيع اتفاقيتي سلام فلسطينية واردنية ،فالسباق بدأ عندما نفخت واشنطن صافرة الانطلاق نحو تل ابيب ،فكان السبق من نصيب الفلسطينيين الاكثر رشاقة ثم وصلنا بعدهم مباشرة . اليوم وبعد مرور أكثر من ربع قرن على اتفاقية اوسلو ونحو ذلك على اتفاقية وادي عربة ،يتململ الخليج الرسمي بعد ان عبأته واشنطن خوفاً من ايران وكراهية لها ،ويبدي استعداده لتقديم اي ثمن مقابل حماية دائمة وليست مؤقتة تنتهي بانسحاب القوات الاميركية من المنطقة ،هذه الحماية الدائمة توفرها دولة موجودة وقوية وتمثل ذراع واشنطن وتلتقي مع عرب الخليج عند مصلحة تدمير قدرات ايران النووية والتقليدية ،هذه الدولة هي اسرائيل المستعدة لتنفيذ المهمة مقابل فك عزلتها الدولية ،فكيف اذا جاء هذا الفرج من دول عربية ..! يبالغ الخليجيون هذه الايام في اعجابهم باسرائيل وبالاسرائيليين ،فهم قد يكونوا مجبرين كدول على التطبيع معها ،لكنهم غير مجبرين كشعوب على زيارة اسرائيل او الترحيب بالاسرائيليين في بيوتهم ،وهم قد يكونوا كدول مجبرين على اقامة علاقات دبلوماسية وطبيعية مع كيان لا يزال يشك ببقائه ،لكنهم ليسوا مجبرين كشعوب على اقامة الحفلات المشتركة مع المستوطنين والتغني بمنجزات الدولة العبرية على اطلال القرى الفلسطينية التي استولى عليها المستوطنون وطردوا سكانها ،والاهم من ذلك انهم غير مجبرين على التنصل من صلة العروبة التي تربطهم بالفلسطينيين بايقاظ هذا الكم من الكراهية النائمة لكل ما هو فلسطيني ،فواشنطن لم تطلب منهم شتم الفلسطينيين وتجريدهم من حقهم التاريخي بأرضهم ووطنهم ..! كنّا هناك قبل ربع قرن من الزمان وأحتفينا بالسلام مثل اقاربنا الخليجيين اليوم ورحبنا بالاسرائيليين ودخّن رابين الشيشة في عمان قبل ان يقتله المستوطنون لمجرد انه رغب بالسلام ،واطلق احد الاردنيين اسم رابين على مولوده ،لكننا لم نشتم الفلسطينيين رغم انهم سبقونا الى التطبيع ودبروا لنا مقلباً سياسيا أوقعنا في شرك الاستعجال لتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل تلافياً لغضب الاميركيين الذي انعكس على علاقات الدول الخليجية بنا ،فحرمونا من المساعدات وطردوا العمالة الاردنية من دولهم واوسعونا شتما في الاعلام ولم يعودوا عن غضبهم الا بعد ان رضيت علينا واشنطن ،ولم ترضى الا بعد أن رضيت اسرائيل التي لم ترضى الا بعد ان وقعنا اتفاقية سلام معها ..! كنّا هناك ،مثل اقاربنا الخليجيين االمبهورين بالسلام مع اسرائيل ،السلام الذي لم تسبقه حرب ،ومع ذلك يسمى التطبيع سلاماً وكأن دول الخليج كانت تخوض حرباً شعواء مع اسرائيل ،هذه كانت حالنا ايضا ،فلم نكن في حالة حرب مع اسرائيل ،ولم نكن في حالة سلم أيضا ،وما حدث بعد اتفاقية السلام ليس سوى تثبيت لواقع قائم اما اسرائيل فبقيت دولة معادية ومحتلة لاراضي الفلسطينين والسوريين واللبنانيين ،ولم تتزحزح عن سياساتها العدائية قيد انملة ،فضاعفت الاستيطان وأجتاحت بين الحكم في رام الله وحاصرت رجل السلام الفلسطيني الحائز على نصف جائزة نوبل ،وبنت مستوطنات جديدة وجرذفت اراضي الفلسطينيين ،ثم ضمت الجولان واعلنت من واشنطن القدس عاصمة لها ،وهدمت البيوت ولم تفرج عن سجين الا لتعتقل عشرة مقابله .. ادركنا بعد سنة أو اقل ان السلام مع اسرائيل اكذوبة كبرى ،وان التطبيع ليس سوى بعض الهوس وقد تخلصنا منه مبكرين تماما كما نتخلص من الحمّى ساعدنا في ذلك الاسرائيليون انفسهم ،فهم من اقنعونا انهم ليسوا اهلاً للسلام ولا يريدونه لمجرد انهم يملكون القوة ومن ورائهم الولايات المتحدة التي تسخرهم للحرب والتخويف وتجبر غيرها على خدمتهم ،وما داموا يحققون الاختراقات بيننا ،فاقاربنا في الخليج لا يرون الصورة كما نراها ،ولم يتعرفوا بعد على حقيقة اسرائيل كما عرفناها . ولاننا كنّا هناك ووقعنا في نفس الفخ ،لسنا قلقين على أشقائنا في الخليج ولا خائفين من اخطائهم فهم اليوم يمرون بموسم (المشمش ) الذي سينتهي قريباً،حتى لو أطلت بعض الرؤوس المشمغة لتتحدث بأسمهم وتمتدح اسرائيل وتشتم الفلسطينيين باسمهم وتخون باسمهم ،فهذا الخليج عظيم بناسه ولن يخذل فلسطين ابداً وستمر غيمة التطبيع كما مرت من فوقنا ثقيلة امطرتنا قرفاً ،ففي تلك البلاد شعوب لا زالت تنتظر انتهاء السامر كي تقول كلمتها فاذا قالتها غيرت مجرى التاريخ الذي سيبقى في الخليج عربياً قومياً ولن يكون اسرائيلياً رغم ضغوطات واشنطن وتبجحات ترامب .