الصحفي بسام الياسين
وقف عبدالرزاق، الموظف البسيط، في الطابور الصباحي امام مخبز «اللقمة الحلال»، بانتظار دوره للحصول على بعض الارغفة الساخنة، قبل ذهابه للدوام. كان الطابور طويلاً ومتعرجاً والطقس بارداً. الوقت يمضي بطئياً. فكر في تقديم عقارب ساعته، لكنها حيلة لن تنطلي على الزمن.عجوز متصابية تقف امامه، ترتدي بدلة رياضية، وجهها تكسوه مساحيق مُنفرة مثل مهرج سيرك شعبي، فيما يقف خلفه غلام بدين، كخنزير تربى على مزبلة، ذا عجيزة مربربة، وشفاه مكتنزه،يضع في اذنيه سماعة،و اسنانه لا تنفك عن طقطقة المكسرات كدابة تقف على معلف.
مر الوقت ثقيلاً، وعند ما استلم «ربطة الخبز» وهمَّ بالخروج، احس بنقرات خفيفة على كتفه الايسر، التفت واذا به وجهاً لوجه مع صديقه ابو علي القادم من «العُمرة». انقه،ثم همس في اذنه مازحاً :ـ هل ذهبت لتغسل ذنوبكَ ام لغسيل فلوسك؟!. تضاحكا، وتواعدا على اللقاء بعد صلاة العشاء في بيت ابي علي لتسليمه هديته :ـ سجادة صلاة ومسبحة.
في طريقه شاهد جمهرة من الناس، تتحلق حول شاب مسجى على الارض، وقد تناثرت كتبه واوراقه. استفسر عن الواقعة من البقال القريب من الحادث، فاخبره ان سيارة خاصة مسرعة يقودها مراهق طائش صدمت الشاب الجامعي، ولاذت بالفرار، متجاوزاُ الاشارات الضوئية، ولولا عناية الله لحدثت كارثة ساعة الذروة .فقال متألما: ـ متى نتخلص من هذه الذئاب المنفردة الفالتة ؟ّ!. بعدها احس عبدالرزاق بصداع خفيف في مؤخرة رأسه، وهو مؤشر ارتفاع الضغط عنده فاسرع الخطى للبيت، وضع الخبز وابتلع حبة الضغط.
فكر ان يطلب اجازة لكنه عدل عن الامر، فالمعاملات متراكمة في مكتبه،جلها يحمل صفة الاستعجال، وبعضها الاخر تنتظر توقيع الوزير، الذي سيغادر غدا في اجازة اوروبية.خرج للشارع واشار على غير عادته الى سيارة « اوبر»، وامتطاها لاول مرة في حياته. وما ان وطأ عتبة الوزارة حتى احس بحركة غير عادية ،وقرأ في عيون الموظفين تساؤلات وحيرة، دخل مكتبه ثم فتح النوافذ لتهوية المكتب لاحساسه بانقباض نفسي، وضيق في التنفس. وقبل ان يجلس على كرسيه رن هاتفه. وما ان رفعه حتى سمع صوت زميله،شكري وشهرته «رويترز».بادره بالقول: اللهم اجعله خيرا ؟!.
رد شكري: تعرف يا عبدالرزاق ان «رويترز» اكتسبت شهرتها من مصداقيتها ،وسرعتها بالتقاط الاخبار وبثها، وسأخصك بخبر حصري لم تلتقطه اي وكالة اخرى. ضحك عبدالرزاق رغم احساسه بالضيق وقال:هاتِ ما عندك يا غراب الشؤم. فاجابه «وزيرنا طار وما حدا سمى عليه». صعق عبدالرزاق من الخبر ورد عليه: كيف والبارحة عقد معاليه مؤتمراً صحفياً وشاهدت بام عيني تذاكر سفره وحجوزات الفنادق الاوروبية ، فقال شكري بصوت مدوٍ: «طز» كله حكي فاضي… البارحة تم استدعاؤه للرئاسة وطلبوا منه تقديم استقالته.
دهش عبدالرزاق، وسأل عن السبب وراء المفاجأة. قهقه شكري وقال بنبرة شامتة: شهادة معالية «طلعت فالصو»!.لم يستوعب عبدالرزاق الجملة، رغم طنينها في اذنه.سأل رويترز: كيف اكتشفوا ذلك بعد ربع قرن، فرد عليه بلهجة العارف: هاي بسيطة، اخونا رفع خشمه بعد الوزرنة، فاجرى،سلسلة من التغييرات والتنقلات والتعديلات،ناهيك عن تغيير اثاث مكتبه، واستبدل سيارة الوزير السابق، واجرى تعديلات تجميلية لخشمه المفلطح، وعملية شد لوجهه.،مما البَّ علية الحساد والاعداء .واضاف رويترز الاعرب انه سيغير…!!. قاطعه عبدالرزاق: وهل بقي ما يغيره،فالفياجرا تباع على البسطات كالجرابات .
انفجر «رويترز» ضاحكا وقال :ـ با عبدالرزاق لا تشطح بخيالك. معاليه مهذب/ كجنتلمان انجليزي، ما ان يرى امرأة جميلة حتى ينتصب واقفاً امامها، ناهيك انه فحل كثور بلدي ويحرث كبغل قبرصي،لهذا يعتزم تبديل ام العيال، خاصة بعد ان خلعت المسكينة اسنانها وبدا فمها مثل مغارة في اعالي”تورا بورا”..فمنذ استلامه الوزرنة، وهو يردد امامها :ـ يا عزيزتي كنت مناسبة للموظف الصغير آنذاك، اما اليوم فلا تصلحين زوجة لمعالي الوزير» وفعلا خطب طالبة جامعية.فنقمت زوجته عليه ولجأت الى خيار شمشون «عليّ وعلى اعدائي» فابلغت هيئة النزاهة و مكافحة الفساد والتعليم العالي،واتصلت بالجامعة التي يحمل معاليه شهادتها المكذوبة وجاء الرد:ـ ان المذكور مجهول لدينا ومعلوماتنا تؤكد انه لم يطأ حرم الجامعة.. في غضون ذلك رَنّ خلوي « شكري / رويترز» ، فاعتذر من عبدالرزاق بانه مضطر لقطع الخط، الارضي، لمتابعة خبر عاجل يدور في الوزارة قبل ان يلشطه منافسه صالح ،الملقب C.N.N.
وقبل ان ينتهي الدوام، رن هاتف عبدالرزاق. فادرك باحساسه الفطري انه «رويترز» فاستبقه بالقول: ما جديدك؟ فجاءه الرد :ـ معاليه لملم اوراقه واخبرني سائقه ان الزوجة عرفت بالاقالة وغادرت منزله تاركة له على الطاولة ورقة تواليت كتبت عليها :ـ لو دامت لغيرك ما وصلت الكْ.