وطنا اليوم:لم تجد الطبيبة إيمان محمود حلاً لكتابة الروشتة العلاجية لإحدى مرضاها داخل مستشفى الصدر بالعباسية، سوى بالاستعانة بورقة قديمة داخل حقيبتها، بعد أن اختفت الأوراق الرسمية المدون عليها اسم المستشفى طيلة الأسبوعين الماضيين.
ورغم المطالبات المتكررة بتوفير المجلدات والدفاتر الخاصة بالمستشفى، لم يصل أي منتج من وزارة الصحة. فطلبت إدارة المستشفى من الأطباء الكتابة على ورق أبيض، أو الروشتات الخاصة بهم، مع استخدام ختم المستشفى لحين توفر المجلدات والدفاتر.
تسبب هذا الأمر في وقف صرف العلاجات للمرضى بشكل مؤقت، قبل أن تتواصل إدارة المستشفى مع وزارة الصحة من جديد، لتسمح الأخيرة بالكتابة على أي أوراق بيضاء مع وجود ختم المستشفى، للتأكد من أنها صادرة عن المستشفى.
وتشير الطبيبة إلى أن أزمة ورق الطباعة أخذت في التصاعد منذ بداية العام الجاري. في السابق كانت إدارة المستشفى تحذر من عدم استغلال أي أوراق ما لم تكن هناك حاجة ماسة لها، وتنبأت بوجود مشكلة قادمة، لكن لم يكن متوقعاً أن يستمر أحد أكبر المستشفيات الحكومية بدون دفاتر العلاج طيلة هذه الفترة.
مستشفيات حكومية بلا أوراق لتسجيل دخول المرضى
ما حدث في مستشفى صدر العباسية تكرر أيضاً في المستشفى الأميري بمحافظة سوهاج. بحسب إحدى الطبيبات بالمستشفى– رفضت ذكر اسمها- فإن أزمة اختفاء الدفاتر المطبوعة تستمر للأسبوع الثالث دون حل من جانب وزارة الصحة، وعانى المستشفى خلال الأيام الماضية من عدم وجود تذاكر مطبوعة، والتي يتعين على المريض دفع قيمتها قبل الدخول، وهي رمزية لا يتجاوز سعرها خمسة جنيهات.
وأضافت الطبيبة، أن إدارة المستشفى أجبرت المرضى على دفع قيمة تذاكر مسائية، والتي مازالت دفاترها القديمة متوفرة بالمستشفى وتبلغ قيمتها 25 جنيهاً، لكنها واجهت رفضاً واسعاً من المرضى. وحصل المستشفى على موافقة من وزارة الصحة، بالسماح بدخول المرضى بالتذاكر المتوفرة، لكن مع دفع خمسة جنيهات فقط، مشيرة إلى أن ردود مديرية الصحة بسوهاج تشير إلى أن هناك مشكلة في الأوراق والأحبار الخاصة بالطباعة، تؤخر توريد التذاكر إلى المستشفى.
لم تكن الأزمة فقط في تذاكر الدخول، بل إن الصيدلية الخاصة بالمستشفى لم يتوفر بها أي دفاتر مطبوعة منذ ما يقرب من شهر تقريباً، في ظل صعوبات يواجهها العاملون بصرف الأدوية التي يدونها الأطباء على أوراق بيضاء. وبحسب الطبيبة ذاتها، فإن ذلك يفتح الباب أمام تزوير الروشتات، وقد يحصل المرضى على أدوية ليسوا بحاجة إليها، لكن تتم إعادة بيعها في السوق السوداء، مع استمرار أزمات شح الأدوية المستوردة.
تعطّل الشحنات بالموانئ يخلق أزمة في الداخل
وتعاني مصر أزمة نقص في ورق الكتابة، منذ أن تعطل دخول الشحنات المستوردة من الخارج لأشهر طويلة، وتكدست بالموانئ المصرية قبل الإفراج عن أغلبها مؤخراً. ويبدو أنه جرى التعامل مع الورق باعتباره أحد السلع التي يمكن تأخير الإفراج الجمركي عنها، مقارنة بالسلع الغذائية والأدوية وغيرها من المستلزمات الحياتية الضرورية.
وتستهلك مصر نحو 450 ألف طن من الورق سنوياً، ويغطي الإنتاج المحلي نحو 170 ألف طن، أي نحو 37.8% من الاحتياج المحلي، ويتم استيراد الكميات الباقية من الخارج، في الوقت الذي بدأت فيه أسعار الورق عالمياً في الصعود المتسارع منذ أوضاع الإغلاق التي فرضها فيروس كورونا، ثم بتأثير الحرب في أوكرانيا، إلى جانب قيود الاستيراد التي فرضها البنك المركزي، في شهر مارس/آذار 2022.
لم تتضرر المستشفيات وحدها من أزمات شح الورق، بل إن امتحانات الفصل الدراسي الأول- التي مازالت مستمرة حتى الآن- عانت الأزمة ذاتها. وكشف مصدر مطلع بوزارة التربية والتعليم المصرية ، أن الوزارة واجهت صعوبات لتوفير أوراق الامتحانات التي يتجاوز عددها 100 مليون ورقة امتحانية إلى جانب أوراق الإجابات، وأن المديريات التعليمية استفادت من المخزون القديم لديها واستخدامها في طباعة الامتحانات، وجرى تأمين وصول الأوراق إلى الشهادات العامة، وتراجعت الوزارة عن طباعة أوراق بديلة لطلاب الصفين الأول والثاني الثانوي في حال تعطل التابلت نتيجة لتلك الأزمة.
امتحانات بلا أوراق للإجابة
وأضاف المصدر أن المديريات التعليمية واجهت مشكلات من نوع آخر تتمثل في عدم توفر ميزانيات لشراء الأوراق بالأسعار الجديدة، مع زيادتها بنسبة تفوق 200% خلال الشهرين الماضيين. ورغم اتخاذ قرارات الشراء بالأمر المباشر دون الانتظار لإجراء مناقصات، فإن العديد من الإدارات التعليمية استغاثت بالوزارة والمديريات التعليمية لعدم وجود سيولة مالية للشراء.
الوضع ذاته بالنسبة للأحبار التي اختفت خلال هذا الشهر، مع استعداد دور النشر لمعرض الكتاب، وكذلك استعداد المطابع الحكومية والخاصة للانتهاء من طباعة كتب الفصل الدراسي الثاني، ما ضاعف الإقبال عليها مع قلة الكميات المتوفرة في الأسواق.
وتوالت شكاوى أولياء الأمور خلال الأيام الماضية، جراء عدم وضوح رؤية أسئلة الامتحانات، نظراً لعدم وجود الأحبار، وتسببت الأزمة في إصدار قرار من مديرية التربية والتعليم بالقاهرة توزيع درجات الأسئلة التي لم تظهر في الامتحانات، بعد ضغوطات مارسها أولياء الأمور، الذين وجدوا أن مستقبل أبنائهم مهدد نتيجة حالة الارتباك التي سادت الامتحانات.
تقول فاطمة إبراهيم، وهي ولية أمر ومسؤولة عن إحدى المجموعات التعليمية على مواقع التواصل الاجتماعي، إن إدارات المدارس طالبوا أولياء الأمور بتوفير أوراق للإجابة لعدم وجود أوراق كافية، وإن ذلك تسبب في زيادة الإقبال على شراء الأوراق المُسطرة من المكتبات. وفي غضون ساعات قليلة اختفت تلك الأوراق من المكتبات أيضاً مع هرولة أولياء الأمور لشرائها.
وكذلك الوضع بالنسبة للأحبار التي لم تتوفر في الإدارات التعليمية قبل ساعات من انطلاق امتحانات التيرم الأول، التي بدأت منتصف هذا الشهر. ووفقاً للمتحدثة ذاتها، فإن العديد من أولياء الأمور قاموا بجمع تبرعات لشراء الأحبار، في واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ الامتحانات المصرية، مشيرة إلى أن الأزمة لم تقف عند هذا الحد.
إذ أوضحت أن أزمة ورق الكتابة والأحبار كانتا سبباً في أن تقتصد وزارة التربية والتعليم في إعداد أوراق الإجابات، وكذلك أوراق الأسئلة، وشكا الطلاب من صغر حجم الخط. كما أنهم لم يجدوا أوراقاً كافية للإجابة عن كل الأسئلة، وطالبتهم المدارس بالإجابة على ورقة الأسئلة من الخلف وتدبيسها مع أوراق الإجابة للتعامل مع المشكلة.
دور النشر تعاني في معرض الكتاب
وتعاني دور النشر المشارِكة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي انطلقت دورته الرابعة والخمسين، الأربعاء 24 يناير/كانون الثاني، من مشكلات ارتفاع أسعار الأوراق ومستلزمات الطباعة وعدم توفرها، ما دفع أغلبها للاعتماد على نسخ مطبوعة قديماً، مع طباعة أعداد قليلة من النسخ الجديدة للتعامل مع الأزمة، في ظل شكاوى العديد من الناشرين من عدم توفر ألوان محددة في الأحبار بينها اللون الأحمر. كان ذلك سبباً في تعديل العديد من أغلفة الكتب خلال الأيام الأخيرة التي سبقت انطلاق المعرض.
وأرجع مصدر مطلع بشعبة الورق التابعة للغرفة التجارية، الأزمة لمجموعة من الأسباب على رأسها زيادة أسعار الورق، بنسبة وصلت إلى 300% مع التراجع الأخير في سعر الجنيه، وهو أمر لم يكن موضوعاً في حسبان الجهات الحكومية التي حددت ميزانيتها وفقاً لأسعار سابقة، ووجدت صعوبة في توفير كافة احتياجاتها، تحديداً وزارة التربية والتعليم، التي تعاني في تلك الأثناء أزمة الانتهاء من طباعة كتب الفصل الدراسي الثاني.
ومن المتوقع أن تتأخر عملية تسليم الكتب إلى الطلاب لحين الانتهاء من توفير مستلزمات الطباعة التي تحتاجها. هذا بالإضافة إلى قلة المعروض من الورق في هذا التوقيت، نظراً لتوقف عملية الاستيراد طيلة الأشهر الماضية، وعدم وصول شحنات جديدة من الخارج حتى الآن، بحسب ما يؤكد المصدر ذاته.
ولفت المصدر إلى أن أسعار طن الورق شهدت ارتفاعاً كبيراً في السوق المحلية، ووصلت إلى 41500 جنيه للطن الواحد، في مقابل 25 ألف جنيه قبل شهر ونصف الشهر تقريباً. كذلك الوضع بالنسبة لأسعار طن الورق المستورد، الذي وصل إلى 66 ألف جنيه، بعد أن وصل سعره إلى 40 ألف جنيه قبل شهر، وهو ما انعكس على كافة المستلزمات الورقية. إذ سجلت عبوة ورق التصوير 70 غراماً نحو 1000 جنيه، مقابل 550 جنيهاً في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتشير إحصاءات غرفة صناعة الورق المصرية إلى أنه يتم استيراد نحو 20% من ورق الكرتون، بينما يتم إنتاج 80% بالسوق المحلية، لافتاً إلى أن مصر تستورد 40% من ورق الكتابة المخصص لطباعة الكراسات والكشاكيل، مقابل 80% من الإنتاج المحلي، بجانب استيراد ورق الصحف بنسبة 100% من الخارج.
خسائر فادحة للمستوردين
وتعرّض مستوردو الورق من الخارج إلى أزمات عديدة خلال الأشهر الماضية، وفقاً للمتحدث ذاته، نتيجة دفع أرضيات مقابل بقاء الشحنات في الموانئ، وتسبب ذلك في زيادة قدرها 10 آلاف جنيه، نظير تخزين الطن الواحد، وهو ما تسبب في خسائر فادحة للمستوردين، والبعض منهم خرج من السوق حتى لا تتضاعف خسارته، انتظاراً لاستقرار سعر الصرف.
المصدر ذاته توقّع أن يصل طن سعر الورق المستورد إلى ما يقرب من 70 ألف جنيه للطن الواحد، ويرجع ذلك إلى زيادة أسعار الشحن العالمية، والتي وصلت إلى 1300 دولار، بزيادة قدرها 60% تقريباً، هذا بالإضافة إلى أن العديد من مصانع الأوراق، التي كانت تعمل بكثافة في الولايات المتحدة والسويد، أغلقت أبوابها مع انتشار فيروس كورونا، والبعض منها عاد للعمل مرة أخرى، وليس بنفس الطاقة الإنتاجية، والبعض الآخر لم يعمل بعد، ما أدى لانخفاض آخر في معدلات الإنتاج العالمية، وصل تقريباً إلى 50%، وبالتالي أصبحت حاجة السوق المحلية أكبر مما يتم استيراده من الخارج.
وأشار مصدر مطلع بقطاع الكتب، التابع لوزارة التربية والتعليم، والذي يشرف على طباعة الكتب الجديدة، إلى أن مناقصة طباعة الكتب المدرسية، والتي تكلف ما يقرب من مليارَي جنيه، جرى الانتهاء منها في شهر مارس/آذار 2022، وتمت طباعة كتب الفصل الدراسي الأول دون مشكلات تذكر.
لكن الأزمة حالياً تتمثل في أن المطابع الحكومية والخاصة، التي تتولى عملية الطباعة، ليست لديها كميات كافية من الورق، إلى جانب أن الأسعار تضاعفت وتجد نفسها أمام خسارة محققة.
وأضاف أن الشركات تشكو من ارتفاع سعر التكلفة، وإذا لم تكن هناك زيادة حالية في أسعار الكتب المدرسية، فإنه من المتوقع أن تتفاقم الأزمة العام القادم، لأن ميزانية الطباعة قد تتجاوز ثلاثة مليارات جنيه، و”قد نلجأ إلى أنواع أقل في الجودة لتوفير ميزانيات الطباعة”، على حد تعبيره.
أزمة الدولار تمنع من تحقيق الاكتفاء الذاتي
وتمتلك الدولة المصرية أربعة مصانع لورق الكتابة، وهي مصنع إدفو، وقنا، وراكتا، والأهلية. يستخدم مصنعا إدفو وقنا مولاس القصب، المعروف تجارياً باسم “بجاس”، لتصنيع لب الورق، بينما يعتمد مصنعا راكتا والأهلية على قش الأرز. وتصل استثمارات قطاع تصنيع الورق في مصر لنحو 250 مليون دولار.
ويذهب مصدر باتحاد الصناعات المصرية للتأكيد على أن الحكومة المصرية كانت لديها خطة لإنشاء مصنع جديد لتصنيع ورق الكتابة في محافظة قنا. وكانت الدراسات تشير إلى أنه سيكون بطاقة استيعابية تصل إلى 200 ألف طن سنوياً، ما يقلل من فاتورة الاستيراد من الخارج، لكن التجربة لم تكتمل بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة حالياً، وشح العملة الأجنبية، وأن المصنع كانت تصل تكلفته الأولية إلى 100 مليون دولار.
ويعتبر أن الحل الأسلم للتعامل مع الأزمات الراهنة يتمثل في إعادة إحياء عدد من مصانع الورق التابعة لقطاع الأعمال، والتي أغلقت أبوابها منذ عدة سنوات نتيجة خسائرها المتتالية، على أن يكون ذلك من خلال شراكات مع القطاع الخاص لتطوير الآلات، وهو ما ستكون له نتائج إيجابية على مستوى تخفيف العبء على استخدام الدولار في عمليات الاستيراد من الخارج