أ.د زيدان كفافي
تحدثنا في خواطر سابقة حول مجموعة من المدن والمواقع والموضوعات المتعددة، لكننا وفي الخاطرة السابقة ذكرنا أن أقدم المخلفات الأثرية التي عثر عليها في الأردن جاءت من حوض الزرقاء، لكن ماذا عن مدينة الزرقاء نفسها؟ سؤال أوجب علي أن يكون موضوع هذه الخاطرة.
لو سألت كثير من الناس في الأردن، وربما يكون بعضهم من سكان مدينة الزرقاء حول الآثار في المدينة، لقال على الفور “قصر الشبيب”. وهذا صحيح، لكن هذا جزء من الإجابة، إذ أن على أطراف مدينة الزرقاء الشمالية الغربية وفوق ربوة عالية موقع أثري اسمه “خربة البتراوي”. بنى الأجداد ي هذا المكان مدينة تعدّ من أقدم المدن التي تأسست قبل حوالي خمسة آلاف سنة من الحاضر. وإذا جاز لنا أن نسرد قصة اكتشاف وتاريخ المدينة لا بد لنا أولاً أن نتحدث باختصار شديد حول نشوء المدن في بلاد الشرق الأدنى القديم.
شهد النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد تحولات جذرية في حياة مجتمعات شرقي البحر المتوسط ومصر، إذ تحولت كثير من القرى إلى مدن، أي أصبحت المدينة تشكل وحدة سياسية فكانت بداية الدولة-المدينة، أو المدينة-الدولة وكان أقدمها مدينة “الوركاء” بجنوبي العراق، حيث اكتشف أقدم دلائل على وجود الكتابة. كما شاع بين الناس أن الناس في هذه الفترة استخدموا معدن البرونز (خلط النحاس مع القصدير)، علما أن هذا الأمر حصل في حوالي 2000 قبل الميلاد.، أي بعد حوالي 1500 سنة من بداية العصور البرونزية. على أي حال، جادل بعض الباحثين أن منطقة جنوبي بلاد الشام (الأردن وفلسطين) لم تشهد ظهور لا المدن، ولا الدول ،في الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد قياساً على المدن الأولى في وادي الرافدين بشكل خاص. ويضيفون أن معرفة الكتابة بجنوبي بلاد الشام حصلت في فترة متأخرة جداً عنها في بلاد الرافدين ومصر. لكننا نود القول أن مقياس ومواصفات المدينة الرافدية يجب أن لا تكون مقياساً للمدن الأولى بجنوبي بلاد الشام. وحتى نحاول اقناعكم بأن الأردن وفلسطين قد شهدا نشوء المدن الأولى في حوالي 2800/2700 قبل المدن نضرب مثالاً من خربة البتراوي على أطراف مدينة الزرقاء.
خلال ستينيات القرن الماضي كنا نركب الباص قاصدين مدينة الزرقاء، وإذا كانت الذاكرة لا تخونني كان الباص ينطلق من عمان ماراً بالمحطة، ثم ماركا، ويصل إلى بلدة الرصيفة حيث ينحدر الباص مسرعاً بعد أن يمر بمناجم الفوسفات ويسير محاذياً لسيل الزرقاء، وكانت هناك متنزهات على يسار الشارع تقام فيها حفلات الغناء، ومن ثم يصل الباص إلى مصنع أجواخ “الهيلد”، ويمر بمصنع البيرة، ومن ثم يبدأ بتسلق مرتفع بسيط حيث يطل على مسبح بني فوق سفح هضبة ، وبعدها يدخل الباص لوسط المدينة ليتوقف في موقفه، وسط الكراجات المخصصة لباصات النقل. هذه هي المدينة التى بناها سكانها من قبيلة بني حسن واحتضنت هجرات الشيشان ، وسكنها رجال الجيش العربي (القوات المسلحة الأردنية). هذه بداية مدينة الزرقاء الحديثة والتي توسعت في مساحتها وعدد سكانها هذه الأيام لتصبح ثاني أكبر مدينة في الأردن في الوقت الحالي.
لكن ماذا عن مدينة خربة البتراوي؟ في عام 2003م ( حسب ما أذكر)جائني صديقي الأستاذ الدكتور “لورنزو نيغرو” من جامعة روما “لاسبينزا” في إيطاليا باحثاً عن موقع أثري يعود للعصر البرونزي المبكر في الأردن يريد اجراء تنقيبات أثرية فيه. وحيث أنني كنت حينها قد انتهيت من مسوحات أثرية أجريتها مع آثاري إيطالي آخر، هو “غيتانو بالمبو” أي من نفس الجامعة في منطقة وادي الزرقاء، كما أن لي زملاء في الجامعة الهاشمية (الدكتور خالد دوغلاس والدكتورة فردوس العجلوني) لهما نفس اهتمامات الدكتور “نيغرو” قررت أن اجمعهم معاً ، علّهم يبدأوون مشروعاً مشتركاً. وبالفعل هذا ما حصل، إذ كان الزميل الدكتور خالد ساكناً مدينة الزرقاء عارفاً جميع أحيائها، فاقترح أن نقوم بزيارة إلى موقع يسمى خربة البتراوي لإطلاع نيغرو عليه. وبالفعل قمنا بزيارته معاً، وقامت البعثة المشتركة بالتنقيب معاً لمدة موسمين، بعدها تفرد الفريق الإيطالي وحده بالتنقيب. هذه قصة اكتشاف الموقع والتنقيب فيه. لكن ما هي نتائج التنقيبات التي بدأت عام 2004م؟
يقع موقع خربة البتراوي في محافظة الزرقاء، وبالتحديد في الجهة الشمالية الغربية للمدينة ، ويتمركز الموقع فوق تلة صخرية ترتفع حوالي 660 متراً عن مستوى سطح البحر، وتشرف على مجرى نهر الزرقاء من جهته الجنوبية الشرقية. يحتل الموقع الأثري مساحة قدرها أربعون دونماً (أربعة هكتارات)، ويشبه شكله شكل سرج مثلث، وهو محاط بسور وله بوابات، وجهتاه الغربية والجنوبية تشرفان على منحدر سحيق مما شكل لهما حماية طبيعية.
تتشكل المنطقة العليا في الموقع من مجموعة من المصاطب المتراكمة فوق بعضها بعضاً، بلغ عددها خمس مصاطب تنحدر من الغرب باتجاه الشرق. ويعتقد العاملون في الموقع أن قمة الموقع، والتي أسموها الأكروبول معرضة للرياح الغربية الشديدة ولهذا لا تصلح لبناء مساكن الناس فوقها، لكنها مناسبة لبناء مبانٍ عامة عليها لمراقبة ما يجري في داخل المدينة وما حولها. ويظهر أن الناس خلال العصور الحديثة قاموا بتجميع الحجارة المتناثرة فوق هذه المصطبة جعلوها في كومتين. وتحتل المدينة منطقة منبسطة محاطة بسور دائري الشكل، يبلغ قطره 15 متر، الجهة الشمالية من الأكروبول. كما لاحظت البعثة الأثرية العاملة في الموقع وجود درجات في الجهتين الشمالية والجنوبية من الأكروبول، وبناء سياج حجري مربع الشكل يبلغ أبعاده حوالي 42 متراً باتجاه شمال – جنوب و 30 متراً شرق – غرب. أما المصطبة الثانية، فهي تغطي المنطقة المحيطة بالأكروبول، وفوق المصطبة الأولى في جهاتها الشمالية والشرقية والجنوبية، وتأخذ شكلاً هلالياً. وبني في طرفها الشمالي دائرة حجرية. ويحيط بهذه المصطبة جدار هلالي الشكل في منطقة ترتفع حوالي 660 متراً عن مستوى سطح الأرض، يتصل به شارع عُدّ علامة على بدء المصطبة الثالثة. تتكون المصطبة الثالثة من شريط عرضه حوالي عشرين متراً، وتنحدر بالاتجاه الجنوبي وبني على طرفها الشمالي – الشرقي سياج حجري. قبل البدء بالتنقيب في هذه المنطقة لاحظ المنقبون ظهور مجموعة من الجدران على السطح، وبرأيهم شكلت أساسات لمباني العصر البرونزي المبكر الثالث .
المصطبة الرابعة مستوية السطح وتحتل المنطقة بين المسافتين 656 و 654.5 متراً عن مستوى سطح البحر يبلغ عرضها حوالي ثلاثين متراً باتجاه المحور الشرقي – الغربي تتناقص إلى عشرين متراً في جنوبها. ويذكر المنقبون أنه في هذه المنطقة تم بناء أحد بوابات المدينة.
وتشكل المصطبة الخامسة أخفض منطقة في شرقي الموقع، وهي مثلثة الشكل، ويظهر فيها أساسات لبناء ضخم. كما توجد في أقصى طرفها الشرقي كومة من الحجارة تشبه في طريقة بنائها الكومتين الأخريتين فوق الأكروبول.
منظر عام لموقع خربة البتراوي
المطل على وادي الزرقاء (بإذن من لورنسو نيغرو)
أكد المنقبون أن بداية الاستقرار في خربة البتراوي كان في العصر البرونزي المبكر الأول واستمر طيلة المراحل التالية، أي الثاني والثالث والرابع وحتى بداية العصر البرونزي المتوسط دون انقطاع (من حوالي 3500 حتى 2000 قبل الميلاد). بعدها هجر الموقع حتى الوقت الحالي حيث تتناثر مجموعة من البيوت بالقرب من الموقع. وجاءت الشواهد على أقدم البقايا من الجهة الشمالية- الغربية للموقع حيث عثر على كهف محفور في الصخر الطبيعي بداخله كسر فخارية ساعدت على تأريخه. ويظهر من هذا الكلام أن الموقع بدأ على هيئة قرية صغيرة خلال هذه المرحلة. أمّا المدينة المسورة نفسها فأسست خلال مرحلة العصر البرونزي المبكر الثاني، لكنها دمرت خلال المرحلة الثالثة “ب” من العصر البرونزي المبكر. غير أن الموقع بقي مسكوناً ولم يهجر خلال المرحلة الرابعة من العصر البرونزي المبكر، أي حتى حوالي 2000 قبل الميلاد . وتم التعرف على ست مراحل زمنية في الموقع موزعة على النحو الآتي:
الفترة الزمنية | التاريخ التقريبي بالسنوات | مرحلة الاستقرار في خربة البتراوي |
العصور الحديثة | 1900 – 2022م | البتراوي VI |
العصور المتاخرة عن العصر البرونزي المبكر | 2000 ق.م. – 1950 م | البتراوي V |
العصر البرونزي المبكر الرابع ب (EBIVB) | 2200 – 2000 ق.م. | البتراوي IVb |
العصر البرونزي المبكر الرابع أ (EBIVA) | 2300 – 2200 ق.م. | البتراوي IVa |
العصر البرونزي المبكر الثالث ب (EBIIIB) | 2500 – 2300 ق.م. | البتراوي IIIb |
العصر البرونزي المبكر الثالث أ (EBIIIA) | 2700 – 2500 ق.م. | البتراوي IIIa |
العصر البرونزي المبكر الثاني
(EBII) |
3000 – 2700 ق.م. | البتراوي II |
العصر البرونزي المبكر الأول
(EBI) |
3400 – 3000 ق.م. | البتراوي I |
كما عثر في خربة البتراوي على مبان وصف بعضها أنه استخدمت بيوتاً للسكنى، ونقدم أدناه وصفاً لتلك المؤرخة للعصر البرونزي المبكر الثالث. ومن هذه البيوت ذلك المؤرخ للفترة بين حوالي 2500 و 2300 قبل الميلاد (EBIIIb) والذي بني في منطقة تقع داخل بوابة المدينة الرئيسية. ويظهر أن هذا البيت ذا الزوايا القائمة كان له أكثر من طابق، حيث عثر على درج يقود لطابق علوي. كما عثر في المنطقة الملاصقة للوجه الخرجي لجدار المبنى الشرقي على فرن له سقف مقبب وأرضية من الحجارة البازلتية. كذلك عثر في الجهة الغربية من الموقع على بقايا لجدران، وأرضيات مبنية من الحجارة الجيرية المكسَّرة والمطحونة وجد فوقها جرار كبيرة الحجم مزخرفة بزخارف على شكل الحبل اضيفت لسطحها الخارجي وتعود جميعها للمرحلة الثالثة للعصر البرونزي المبكر. كما عثر على أزاميل معدنية وقلادة من الخرز وأدوات حجرية أخرى خاصة تلك التي تستخدم للطحن والجرش. ونظراً لغنى هذا المجمع البنائي بالموجودات الأثرية أطلق عليه المنقب صفة “القصر” .
مبنى القصر في خربة البتراوي
المعثورات التي وجدت داخل غرف القصر.
كشفت التنقيبات والمسوحات الأثرية في الموقع على أنه كان محاطاً بسور يتراوح عرضه بين 2.9 – 3.6 متراً، وله بوابات وأبراج ودعامات حجرية، طرأ عليها تعديلات وإضافات متعددة خلال الفترة الممتدة بين حوالي 3000 وحتى 2300 قبل الميلاد. وبنيت جميع التحصينات من الحجارة فوق الصخر الطبيعي، على أطراف الموقع وحسب المعطيات الطبيعية في المناطق التي بني فوقها. وحيث إن الموقع يأخذ شكلاً ثلاثياً، لذا جاءت المناطق الأكثر تحصيناً عن غيرها تتركز في مناطق زوايا السور لأنها تشكل مناطق دفاعية ضعيفة، والمنطقة الشمالية من الموقع لسهولة الوصول إليها. فبني في الزاوية الشمالية-الغربية برج مربع الشكل مدعَّم ببناء دعامتين حجريتين أمامه، تبرز الأولى في الجهة الغربية والثانية في الجهة الشمالية. ويعتقد المنقبون أن البوابة الرئيسية للموقع بنيت في منتصف الجدار الشمالي لسور المدينة. ويأخذ السور شكلاً منحنياً عند أقصى الزاوية الشرقية للسور مشكلاً ما يشبه شكل البرج. ويستطيع الناظر إلى السور أن يرى في منطقة تبعد حوالي 45 متراً إلى الغرب من الزاوية الشرقية منطقة منخفضة ، وربما يشير هذا إلى وجود بوابة أخرى بنيت فيه. كما لوحظ بناء برج آخر في الزاوية الجنوبية – الغربية من السور تبلغ أبعاده 12 في 8 أمتار، يشرف على المنطقة الواقعة حول مجرى نهر الزرقاء. ويظهر أن المنطقة الغربية للموقع هي الأكثر أماناً من غيرها، بسبب ميلان الصخر الطبيعي فيها وانحداره، ووجود مصطبتين طبيعيتين بني فوقهما أبراج مراقبة دفاعية .
تحصينات مدينة خربة البتراوي (حوالي 2800/ 2700 – 2000 قبل الميلاد)
وجدت البعثة الأثرية العاملة في موقع خربة البتراوي في المنطقة (الحارة Area) المسماه F على بقايا لمبنى كبير، يحتل مساحة قدرها 400 متر مربع نسبة إلى معبد يعود للمرحلتين الثانية والثالثة من العصر البرونزي المبكر. ووصف المنقبون مبنى المعبد بأنه من النوع المعروف باسم “معبد الغرفة العريضة Broad-room Temple”، وأنه بني لأول مرة في المرحلة الثانية من العصر البرونزي المبكر ، واستمر استخدامه خلال المرحلة الثالثة. ويتكون مخطط المبنى من بناء قائم الزوايا مكون من غرفة عريضة أمامها ساحة، بنيت جميعها من الحجارة الغفل. بلغ سمك الجدار الجنوبي للمبنى حوالي متر، وبنيت زوايا المبنى، أي أماكن التقاء الجدران مع بعضها بعضاً، فوق الصخر الطبيعي مباشرة، بينما بني الجزء الداخلي من المبنى فوق منطقة بنيت من الحجارة الصغيرة والتراب المرصوص أو المدكوك. وللمبنى باب عرضه 1.40 متراً، ويقدر المنقب ارتفاعه بمترين، بني في الجدار العريض للمبنى. وللباب درحة تقود إلى الداخل. وبالإضافة للغرفة الرئيسية (Cella) وجد مذبح مستدير الشكل.
اقترح المنقب أن بناء المعبد المؤرخ للمرحلة الثالثةكان من اللبن الطيني، الذي كسي بطبقة من القصارة على وجه جدرانه الداخلية، والطين من الخارج. ويعتقد أن ارتفاع المبنى بلغ حوالي أربعة أمتار، وأما السقف فبني من القضبا الخشبية.
مبنى المعبد
هذه البقايا الأثرية التي عثر عليها في موقع خربة البتراوي المحصن، بني فيه مباني عامة (معبد وقصر) ومساكن للناس، وهذا يشابه مدن أولى أخرى أكتشفت في الأردن مثل موقع “خربة الزيرقون” على وادي الشلالة بالقرب من بلدة المغير في محافظة إربد، وموقع باب الذراع في منطقة لسان البحر الميت.
كانت المنطقة الواقعة للشرق من خربة البتراوي منطقة كسارات توقف العمل بها منذ سنوات عدة، وأما الموقع الأثري فإن الزحف العمراني وصل إلى مشارفه، كما أن الفريق الإيطالي قام مشكوراً بترميم المباني المكتشفة.
الهدف من هذه الخاطرة لفت الانتباه لأهمية الموقع وضرورة ربطه مع قصر الشبيب على الخارطة السياحية لمدية الزرقاء.
ملاحظة: أشكر الدكتور لوزنزو نيغرو (Prof. Lorenzo Nigro) على تزويدي بالصور المرفقة والسماح لي بنشرها.
زيدان كفافي
عمّان في 19/ 12/ 2022م
مراجع للقراءة لمن يرغب:
Nigro, Lorenzo 2016; Khirbat al-Batrawi 2010-2013: The City Defences and the Palace of Copper Axes. Pp. 135- 154 in Monthe Jamhawi (ed.), Studies in the History and Archaeology of Jordan XII. Amman: Department of Antiquities of Jordan.
Nigro, Lorenzo 2013; Urban Origins in the Upper Wadi az-Zarqa’, Jordan: The City at Khirbat al-Batrawi in the Third Millennium BC. Pp. 489-506 in Fares al-Hmoud (ed.), Studies in the History and Archaeology of Jordan XI. Amman: The Department of antiquities of Jordan.
Nigro, Lorenzo 2009; Khirbet al-Batrawy: a Case Study of 3rd Millennium BC Early Urbanism in North-Central Jordan. Pp. 657-677 in Fawwaz al-Khraysheh (ed.), Studies in the History and Archaeology of Jordan X. Amman: The Department of antiquities of Jordan.