بقلم ا.د خليل الرفوع
“ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعروف”(البقرة، ٢٢٨)،كانت هذه الآية القرآنية مبتدأَ حضور المرأة في الوجدان العربي قيمةً ومكانةً وعزةً ؛ فلم يُنْكَرْ دورُها التاريخي في التربية وتنشئة طفولة ضربت في مسار الفكر نصيبا وافرًا أسهمَ في بعث الحضارة العربية الإسلامية واستمرارها في كل مساراتها التاريخية، فللمرأة أمًّا وزوجًا الدورُ التربوي الإلهامي في بعث أجيال تعاقبت لرفد تيار الأمة ليبقى ماءُ الحياة متدفقًا في صيرورتها. فلا غرو أن تنسب بعض القبائل لنسائها قبل الإسلام وبعده وتشارك في القيادة القبلية والسياسية والفكرية والأدبية ، وأن المرأة المحبوبة الرمز كانت ملهمة الشعراء في غزلهم الصريح والعذري والشعبي عبر تاريخ الأدب العربي، فلها الحضور البهي في التوصيف الجمالي وما يوحيه بالحب والخصب والتناسل والحياة .
وقبيل بدايات تأسيس الدولة الأردنية كان للمرأة دورها الريادي في تشكيل الهوية الوطنية الأردنية من خلال بعث روح الاستشهاد والتضحية دفعًا للظلم أو ذودًا عن حمى العرض والأرض تزامنا مع دورها في التربية والتنشئة والأعمال اليومية كالتحطيب والطهي أو الأعمال الفصلية كالحصاد وجني الثمار وغيرها في زمن اختلط فيه ضنك المعيشة بغياب الأمن، فكان للمرأة الأردنية في البادية والأرياف والحواضر أدوار طليعية لم تحظ بالتدوين ولم يُرْوَ منها إلا النوادر ، ولعل تلك التضحيات من شهدائنا إلى يومنا هذا ما كان لها أن تتحقق لولا الوعي الديني والقومي والوطني عند المرأة المعلمة الأولى لأبنائها ، وسأضرب أمثلة على ذلك الوعي التاريخي الذي يعطي تصورا عاما عن حالة المرأة في جميع أنحاء الديار الأردنية قبل نشأة الدولة ، فالروابط أو الجوامع واحدة ، سواءٌ أكانت دينيةً أم قوميةً أم بيئيةً أم قبيلةً تقوم على تقارب اللهجة أو العرق أو الثقافة أو الهموم والآمال، ومنها :
١- ما عبّرت به علياء الضمور أم الذبيحين : سيد وعلي لزوجها الشيخ إبراهيم الضمور الغساني في بداية الربع الثاني من القرن التاسعَ عشر، حوالي عام ١٨٣٢م حينما استجار به القائد قاسم الأحمد النابلسي من بطش إبراهيم باشا ابن محمد علي الألباني قائد الحملة العسكرية المصرية على بلاد الشام ، فحينما استشارها زوجها بعد أن اُخْتُطِفَ ولداهما وخيره إبراهيم باشا بين تسليم الدخيل أو حرق ولديه ؛ قالت قولتها المشهورة: (بالعيال ولا بالأرض والعرض، حِنّا ما تعودنا تسليم الدخيل . في الاولاد ولا في البلاد يا شيخ، الأولاد فيهم عِوَض أما الشرف والنُّوماس ماله عوض”.
لقد كان موقفا قياديًّا من امرأة تشرّبت مواقف التضحية كما تشربت الأمومة وقوة الشخصية، وقد استمدت من ذلك كله يومئذٍ الرأيَ الحكيم للمفاضلة بين الولد أو الهُوية، أو قلْ بين عذابات الأمومة أو سقي شجرة الوطنية بدم الغاليين ولديها ، فلا شيء يعدل الولد لكن العرض والأرض والشرف والنوماس أعمدة الوطن لا يضحى بها في حسابات الخالدينَ.
٢ – موقف موزة إبراهيم العبيدات – لعله في أواخر القرن الثامن عشر – التي أجبرت على الزواج من الوالي العثماني وأمير الحج الشامي : سعيد باشا الونّي، فقد أبت الزواج منه، لكنها وافقت خشيةً على أهلها من بطش عساكره، وحينما مات زوجها أثناء الحج وكانت مرافقةً له استطاعت قيادة قافلة الحج الشامي ، فكانت أول امرأة في تاريخ الحج يكون لها ذلك، وبعد رجوعها إلى دمشق عادت مع إخوتها إلى كفرَ سومَ وتزوجت من زعيم ناحية الكورة الشيخ الشريدة بن ربّاع الحماد(أصله من وادي بني حمّاد في الكرك) ، فكانت سببا في توحيد قوة القبيلتين لصدّ الحملات العسكرية العثمانية ومَنْ والاها من القبائل المجاورة ، وبها تنتخي قبيلة الشريدة، فهم إخوة موزة، وفيها يضرب المثل الأردني ( الطخ لأبو موزة)، وهي جدة الزعيم الوطني كليب يوسف الشريدة .
٣- وذلك الموقف يذكرنا بنخوة المجالية ( اخوات خضرا)، وهي امرأة من عشيرة المدادحة استنجدت بالشيخ إسماعيل بن يوسف بن سليمان المجالي الملقّب بالشوفي ليخلصها واللائي يعملْنَ معها من نقل الماء إلى الحامية التركية ، إذ استنجدت به قائلة : ( ما تشوف المي تسيل من على ظهورنا يا إسماعيل) ، فاستجاب لها بقوله (أبشري وأنا أخوك يا خضرا) فقاد مجموعة من الفرسانِ وبطشوا برجال الحامية، وكان ذلك في منتصف الربع الأول من القرن التاسع عشر ، ولعل هذا يذكرنا بالإشارة إلى أن بعض العشائر الأردنية تنتخي باسم المرأة في الشدائد ، وفي ذلك دلالة على مكانة المرأة في وجدان الأردني، ودورِها كذلك في بعث الحماسة والحَمِيّة في الذود عن مُشَكِّلات الهوية الوطنية.
٤ – سلسلة الانتفاضات ضد السلطة الاتحادية العثمانية في الشوبك التي حدثت في مطلع القرن العشرين ١٩٠٠ – ١٩٠٥م، وكان أشدَّها حينما بدأت القوات الاتحادية في وضع الشوبكيات في أعمال السُّخْرة – نقل الماء من الينابيع إلى الحامية في قلعة الشوبك – ليكون عقابا متعمدا للأهالي، فثار أهل الشوبك وتمكنوا بمساعدة البدو المجاورين من مهاجمة رجال الحامية، وتوالت بعد ذلك سلسلة من الهجمات والردود الانتقامية ، وقد أعدم صبرًا ثلةٌ من شيوخ الشوبك .
ه – وكان رفض أهل الشوبك للظلم الطوراني الموصول محفِّزًا للكرك وما جوارها للتمرد ، فتولد من تراكمات القهر والرفض ثورتُها التي سميت الهَيَّةَ عام ١٩١٠م، وسمّاها الأتراك فتنة، وأسميها ثورةَ الأردنيين، ولقد شارك فيها – بشرفٍ – حِراكًا وقتالًا وإعدامًا أغلب العشائر الكركية وبعض العشائر الأردنية من العقبة حتى البلقاء، وكان للمرأة الدور التثويري في تحميس الثوار ودفعِهم لمقاتلة عساكر سرايا الاتحاد والترقي، ففي بلدة المزار كانت انطلاقةَ الثورة بعد قتل ضابط وخمسة من الجنود الأتراك يوم ٢١ / ١١ /٢٠١٠م، ثم انتقلت إلى قرية العراق ليهاجمَ رجالُها مركز السرايا ، فقُتِلَ ستة وستون من جنود الحامية ، ثم كان الانتقام التركي من أهلها بقتل تسعة وتسعين رجلا وامرأةٍ واحدة، اسمها خضرا بنت حريثان القرالة انتفضت لاستشهاد زوجها عقلة جمعة المواجدة أمامها فقاتلت بأحد أعمدة بيتها حتى قتلت بالرصاص وهي حامل في الشهر السابع ، وكان لذلك أثر في استعار نار الثورة وامتدادها ، وكان للأخوات بَنْدر ومَشْخص وشَفَق بنات الشيخ فارس المجالي دورٌ في تصاعد التمرد ؛ فبعد لجوء مجموعة من فرسان المجالية إلى الشوبك أثناء الثورة لإنقاذ الأخوات وبعض النساء من بطش الأتراك بقيادة صخر المجالي الذي قتل وهو يشاغل الأتراك عنهن فلُقِّبَ بكاسر الطوابير ، أُخِذَتِ الأختان بندر ومشخص إلى سجن معان وحبستا فيه بينما أفلتت شفق بخديعة الأتراك وإيهامِهم أنها مُسّتْ بالجنون ، أما بندر فهي زوج الشيخ رفيفان بن محمد بن صالح المجالي ووالدةُ الزعيم الوطني حابس الذي أنجبته في الحبس، وقد انتخت لها الشيخة المعانية عذبة شقيقة حامد باشا الشراري لمساعدتها في ولادة ابنها، وأما مشخص فهي زوجُ مُخطِّطِ الثورة وقائدِها الشيخ قدر بن صالح المجالي أول سجين سياسي في بلاد الشام وقد مات بعدئذٍ مسمومًا غِيلةً في الشام على يد الوالي جمال باشا السفاح ودفن جنوب شرق دمشق، ولقد ألهمت مشخص وأخواتها الكركيات رجال الثورة بأهزوجة حماسية جعلت من المرأة ملهمةً للشهادة وللفروسية في مواجهة عدوان عساكر الاتحاد والترقي الذين كان يقودهم آنذاك والي الشام سامي باشا الفاروقي ، فلهنّ كان النشيد وطنيا خالصا يتجاوز حدودَ القبلية وبؤرةَ الثورة، إذ كان الثوار يغنونه على أسوار قلعة الكرك وعلى صهوات خيولهم مستبشرين بالشهادة ومتحدّين رصاص سامي باشا، فكان نشيد الثورة :
يا سامي باشا ما نطيع
ولا نعد ارجالنا
لعيون مشْخص والبنات
ذبح العساكر كارنا.
وبعد،
فلقد كان للأردنيات قبل تأسيس الدولة مكانةٌ اجتماعية اتسمت بالوعي السياسي، ورفض الضيم، والمشاركة في النضال والتضحية دفاعًا عن المبادئ والقيم التي يؤمن بها الأردنيون، ولقد سبق مرحلة تأسيس الدولة تضحياتٌ ومواقفُ ضربت فيها المرأة أمثلة بطولية رفدت الحركات الوطنية بمدد ثوري نِسوي معزز بعقيدة الشهادة والذود عن تاريخ القبيلة الأردنية الذي لا يرضى بالذل، أو مَسِّ العرض والأرض بشيء من قَرْحٍ أو سوء، ويبقى لحرائر الأردن حق الذكر والتدوين والتقدير.
*أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة